كامران قره داغي   نحج النظام العراقي في سحق الانتفاضة لتبدأ أكبر عملية هجرة للمدنيين الكرد عبر الجبال باتجاه تركيا وايران ليتبعها القرار الاميركي بدعم إقامة الملاذات الآمنة لإعادة الكرد إلى ديارهم... كركوك كانت المدينة الكبيرة الوحيدة التي لم تحدث فيها انتفاضة شعبية وحررتها قوات البيشمركة. قررت القيادة الكردية الهجوم على كركوك من ثلاثة محاور، أربيل شمالاً والسليمانية شرقاً وجنوباً. في كتابه بالكردية “نسور قنديل الحمر”، يشرح عضو المكتب السياسي السابق لـ”الاتحاد الوطني الكردستاني” فريدون عبد القادر الذي كان مسؤولاً عن محور السليمانية وكَرميان التي تشمل كركوك وخانقين وكلار وكفري ودوزخورماتو وغيرها، مما يسميه الكرد بالمناطق الدافئة، أن عمليات تحرير المناطق الكردية كانت تتم بمشاركة قوات البيشمركة التابعة للحزبين الرئيسيين وأحزاب أخرى، لكن تحرير كَرميان قادته قوات “الوطني الكردستاني”، إذ إن مسعود بارزاني المسؤول العسكري في كردستان في اجتماع معه قبل بدء الهجوم، “قال لنا إنكم تمثلوننا أيضاً ونضع الهجوم في أيديكم”. يضيف عبد القادر أن القوات المهاجمة من جنوب كركوك واجهت مقاومة عنيفة في دوز خورماتو، خصوصاً من قبل مقاتلي التنظيم الإيراني المعارض “مجاهدي خلق”، الذي كان يستخدم الدبابات والأسلحة الثقيلة وسقط خلال المعارك الضارية هناك الكثير من عناصر البيشمركة. كان هذا التنظيم الموالي للنظام يقيم قواعد عسكرية في العظيم وقرب جلولاء وقره تبه وسليمان بيك، ومقاتلوه لم يشاركوا في الحرب إلى جانب القوات العراقية وبالتالي ظلت معنوياتهم عالية كما انهم كانوا يدركون ان مصيرهم مرتبط ببقاء النظام البعثي الامر الذي يفسر ضراوة مقاومتهم لقوات البيشمركة. في النهاية حتى بعد تحرير كركوك فإن جنوبها ظل منطقة قتالية ولم تنجح القوات الكردية في الاستيلاء عليها. يروي عبد القادر تفاصيل دقيقة وكثيرة عن العمليات في جبهة كرميان والهجوم على كركوك، ملاحظاً أن قياديين في “الاتحاد الوطني الكردستاني” في مقدمهم نوشيروان مصطفى، توقعوا أن تصبح كركوك عاملاً سلبياً في مسيرة الانتفاضة، مضيفاً أن التطورات لاحقاً أكدت صحة توقعهم.  قوات البيشمركة دخلت من محورين إلى كركوك مساء 20/3/1991 من محوري السليمانية وأربيل وسيطرت على المدينة للمرة الأولى في تاريخ الانتفاضات الكردية، فيما فر منها علي حسن المجيد بطائرة هليكوبتر إلى تكريت تاركاً وراءه في مقار أجهزة النظام وحزب البعث أطناناً من الوثائق التي استولى عليها الكرد وشكلت لاحقاً جزءاً من الوثائق التي نقلت إلى الولايات المتحدة وما زالت مودعة في إحدى جامعاتها وديعة لمالكها الشرعي العراق. وشهد اليوم التالي احتفالات بتحرير المدينة وعيد رأس السنة الكردية نوروز معاً. تحرير كركوك كان نصراً تاريخياً للكرد ووجه ضربة معنوية للنظام البعثي. نوشيروان مصطفى كان أكبر مسؤول في قيادة “الوطني الكردستاني” الذي دخل إلى كركوك. في لقائي الخاص مع نوشيروان مصطفى في لندن، روى لي أنه بعد تحرير كركوك مباشرة تلقت قيادته هناك رسالة من أحد رؤساء العشائر العربية في الحويجة جنوب غربي كركوك، هنأ فيها نيابة عن رؤساء 11 عشيرة عربية سنية رئيسية القيادة الكردية، مقترحاً التعاون والتنسيق بين الطرفين. مصطفى عبر عن اعتقاده بأن موقف هذه العشائر العربية كان نابعاً من مخاوفها من قرب انهيار النظام البعثي الحاكم نهائياً. أطلعني مصطفى على الرسالة التي كان يحتفظ بها في أرشيفه الخاص مشترطاً عدم استنساخها أو ذكر أسماء رؤساء العشائر الموقعين عليها. وجاء في الرسالة أن أجهزة النظام كانت تثير مخاوف السكان العرب بمزاعم مفادها أن القوات الكردية كانت تقوم باغتصاب النساء وتقتل السكان العرب، وتجبرهم على إخلاء قراهم وأملاكهم. لذا اقترح الموقعون أن تقوم القيادة الكردية بتوجيه نداءات عبر إذاعتها لتطمين السكان العرب بأن الثورة الكردية ليست ضد العرب، بل إنها “ضد نظام صدام الذي عانى منه شعبنا عرباً وكرداً مع الأقليات الأخرى”. ووعد موقعو الرسالة بأنه بعد أن توجه القيادة الكردية هذه النداءات، فإن وفداً يمثل رؤساء هذه العشائر سيقوم بزيارة القيادة الكردية. تحرير كركوك كان نصراً تاريخياً للكرد ووجه ضربة معنوية للنظام البعثي. تم بث النداءات والتطمينات التي طلبها رؤساء العشائر، فوصل وفد منهم إلى منتجع صلاح الدين للقاء بارزاني ومصطفى. الوفد طلب تعهدات من الكرد بأنهم لن يتعرضوا للسكان العرب ولن يسمحوا لـ”الجعفريين” الاستيلاء على السلطة. وأوضح الطرف الكردي للوفد “أننا علمانيون ونسعى إلى إقامة نظام ديموقراطي لا يميز بين السنة والشيعة وبين المسلمين والمسيحيين وبين العرب والكرد والتركمان”. وأوضح مصطفى أن القيادة الكردية كانت مهتمة جداً بفكرة التنسيق مع رؤساء العشائر العربية التي كانت حدود نفوذها تمتد حتى الفرات، وفي حال العمل المشترك يمكنها أن تحرر هذه المناطق بما فيها تكريت، خصوصاً أن أعضاء الوفد “تعهدوا لنا بأنهم سيحررون مناطقهم من سيطرة بغداد ولن يحتاجوا إلى أي دعم من الكرد بالسلاح والرجال وكل ما يطلبونه هو أن نرسل معهم فريقاً يمثل القيادة للتنسيق معهم”. فوق ذلك قال مصطفى: “تلقينا لاحقاً معلومات من مصادرنا بأن هذه العشائر اتخذت بالفعل إجراءات محددة تمهيداً للتحرك ضد النظام. وزادت ثقتنا بتعهدات رؤساء العشائر العربية أننا تلقينا رسالة ثانية تطلب التنسيق معنا هذه المرة من نحو 20 رئيساً لعشائر في محيط تكريت”. لكن ما حدث بعد ذلك أن القوات العراقية بدأت الهجوم المضاد ضد قوات البيشمركة فأدركت العشائر العربية أن الوضع أصبح مختلفاً وليس في مصلحة الكرد، فقرر رؤساؤها، حفاظاً على مصالح عشائرهم، قطع اتصالاتهم بالكرد، لكنهم حرصوا على إعادة الفريق الكردي المرافق وسلامة وصول أعضائه إلى المناطق الكردية.  برزان التكريتي يتحرك في جنيف في الأثناء، حدثت تطورات ذات صلة في أوروبا. اتصل برزان التكريتي الأخ غير الشقيق لصدام حسين فجأة ليطلب من الكرد لقاءه في جنيف كي يبلغهم رسالة من صدام حسين. كان التكريتي وقتها يشغل منصب ممثل العراق لدى الأمم المتحدة في جنيف. كانت الانتفاضة الكردية بدأت عندما تلقى الصديق الراحل سرجل قزاز، وهو رجل أعمال كردي كان يقيم ويعمل في مانشستر ولندن في بريطانيا، اتصالاً هاتفياً من التكريتي. تلت ذلك تفاصيل رواها لي قزاز في لقاء خاص أجريته معه في 17/6/1993 في أنقرة، حيث كان ممثلاً لـ”الاتحاد الوطني الكردستاني”. قزاز جمعته علاقة شخصية مع جلال طالباني وكان موضع ثقة لديه وكان يكلفه القيام بمهمات خاصة في أوروبا، بينها الاتصال ببرزان التكريتي في الثمانينات فنشأت بينهما علاقة شخصية وبعد إقامة العلاقات بين القيادة الكردية والحكومة التركية اختاره ليمثله في أنقرة. هنا رواية قزاز عن اتصالاته بالتكريتي:  “في 7/3/1991 كنت في منزلي في مانشستر عندما أبلغتني ابنتي أن شخصاً اسمه برزان التكريتي يطلبني على الهاتف. قلت لها أن تطلب منه ان يتصل مجدداً بعد نصف ساعة، وذلك كي يسنح لي الوقت لربط سماعة الهاتف بجهاز تسجيل. في 1988 التقى قزاز التكريتي أكثر من مرة في جنيف ليبلغه رسالة من طالباني مقترحاً فتح حوار بين الكرد وبغداد على أن توقف السلطات العراقية عمليات التعريب في المناطق الكردية، ويوقف الكرد القتال ضد القوات الحكومية “لكنه رد بغطرسة قائلاً ومن هم هؤلاء الكرد كي تننازل الدولة للتحدث معهم؟ الآن في الغرب والشرق الناس مستعدون لتقبيل يدي الرئيس صدام حسين”. بعد نحو نصف ساعة، اتصل بي التكريتي مجدداً وذكرني بأغنية عراقية شعبية تخاطب فيها الحبيبة حبيبها الذي هجرها متسائلة هل هو السبب أم أن أهله يمنعونه من لقائها. أجبته بأنني “في آخر مرة التقيتك في 1988 قبل نهاية الحرب العراقية– الإيرانية وبلغتك رسالة من مام جلال اقترح فيها فتح حوار بين الكرد وبغداد على أساس وقف تعريب المناطق الكردية، كان ردك بانك لا تستطيع أن تفعل شيئاً. لكن التكريتي قال إن الأمر مختلف هذه المرة وكل شيء في يدي وأنا وأنت يجب أن نحل المشكلات. هل يمكنك أن تأتي إلى جنيف اليوم أو غداً؟ قلت له إنني سأتصل به لإعطائه الجواب. بعد ذلك هاتفت مام جلال الذي كان وقتها في دمشق لأخبره بما حدث. بعد فترة قصيرة اتصل بي مام جلال وقال إنه اتصل عبر جهاز الراديو مع كاك مسعود (بارزاني) فاتفقنا على أن تذهب إلى جنيف لتسمع ما يقوله برزان، لكنك يجب أن تلتزم التزاماً كاملاً بكل ما يبلغك به، بالتوافق مع أربعة قياديين موجودين في لندن هم فؤاد معصوم ومحمد توفيق عن الاتحاد الوطني الكردستاني وهوشيار زيباري ومحسن دزه يي عن الحزب الديموقراطي الكردستاني. بعدما زودني القياديون الأربعة بتوجيهاتهم وتعليماتهم توجهت إلى جنيف في 8/3 وأقمت في فندق انتركونتينينتال قبالة مقر الممثلية العراقية حيث استقبلني التكريتي. قبل بدء الحديث استدعى برزان موظفاً اسمه ممدوح وأمره بأن يكتب محضراً للجلسة، وأن يدون كل كلمة نقولها من دون أي تحريف لأن هذا الرجل كردي وإذا أهملت ولو كلمة واحدة مما يقوله فإنه لن يوقع على المحضر، بحسب تعبيره. استمر الحديث نحو 6-7 ساعات وتألف المحضر من 40 صفحة. إقرأوا أيضاً: سألني برزان ماذا يريد الكرد؟ قلت أولاً أن تضم منطقة الحكم الذاتي المناطق الكردية كافة، وثانياً يريدون سلطات أوسع وحقوقاً تشرّع دستورياً. هنا أمر برزان الموظف ممدوح بأن يجلب لنا القهوة وعندما غادر الغرفة قال لي برزان: :أطلب ضمانات دولية وأن تجري المفاوضات برعاية دولية أو أقله برعاية الملك حسين”. وبالفعل أضفت هذه المطالب بعدما عاد ممدوح فسجلها في المحضر. أعتقد أن يرزان أراد بذلك أن يكسب ثقتنا وأن يقوم شخصياً بدور مهم لاستعادة نفوذه الذي أضعفه علي حسن المجيد. بالمناسبة، كان برزان يكره المجيد ومرة كنا وحدنا فشتمه بعبارات بذيئة وروى لي أن طارق عزيز طلب منه بعد انتهاء اجتماعه المشهور في جنيف في 9/1/1991 مع وزير الخاريجة الأميركي جيمس بيكر، أن يرافقه إلى بغداد كي يؤيده عندما ينقل كلام بيكر إلى صدام. وأضاف برزان: “في البداية رفضت لكنني وافقت بعدما ألح علي، لكنني في بغداد لم أستطع لقاء صدام أبداً لأن هذا الـ…. الحقير (المجيد) ما خلّاه يشوفني وبعد كم يوم ضجت ورجعت إلى جنيف”. بعدما أضفت المطلب بالضمانات الدولية ودوّنه ممدوح في المحضر تابعت: نريد أن تكون المفاوضات شفافة لأننا كلما كنا نتفاوض مع صدام كان يكذب علينا. هنا توقف ممدوح عن الكتابة ليسأل برزان هل يكتب صدام أو السيد الرئيس، فأجابه برزان بأن عليه أن يدون كلامي حرفياً. في نهاية حديثنا، سلمني برزان رسالة قال إنها من صدام إلى مام جلال. وبعدما عدت إلى غرفتي في الفندق قرأت الرسالة التي تضمنت انتقادات بعبارات شديدة اللهجة للقيادة الكردية واتهامها بالتواطؤ مع الإيرانيين وخيانة الشعب العراقي، لكنه ختم رسالته بعرضه التفاوض بين الطرفين. في 9/3 عدت إلى لندن وفي اليوم ذاته التقيت بالقياديين الكرد الأربعة لأبلغهم بمضمون لقائي مع برزان، لكنني شعرت بأنهم لم يكونوا متفقين على موقف موحد. بعد ذلك سافرت إلى جنيف للقاء التكريتي مرات عدة في 12 و17 و22 و27/3 وفي كل اللقاءات أبلغني بوضوح الموافقة على مطالبنا بأن تتركز المفاوضات على المناطق المتنازع عليها والضمانات الدولية وحتى الفيدرالية. إلى ذلك أبدى موافقة مبدئية على أن تدار الشؤون الأمنية محلياً، فيما ترابط القوات العراقية على الحدود الدولية. عندما بدأنا البحث في الإجراءات اللوجستية قال برزان أن بغداد تصر على أن يكون الاجتماع في عمان وأن يرأس الوفد الكردي جلال طالباني ومسعود بارزاني شخصياً، فيما يكون الوفد العراقي ممثلاً بعزة الدوري وطارق عزيز. لكننا رفضنا وابلغته باستحالة مشاركة بارزاني وطالباني في التفاوض في المرحلة الأولى. في النهاية تم الاتفاق على أن يمثل الطرف الكردي فؤاد معصوم ومحمد توفيق وهوشيار زيباري ومحسن دزه يي. فوق ذلك أبلغته بأن القيادة الكردية تطلب أن يفتتح كل اجتماع الملك حسين وأن يحضر الاجتماعات إما شخصياً أو ولي عهده الامير الحسن بن طلال ممثلاً عنه. أخيراً في اجتماعنا في 22/3 طلب برزان أن يقتصر الحديث بيننا على إجراءات السفر إلى عمان. عدت إلى لندن واتفقنا على اجتماع للقياديين الأربعة في شقتي اللندنية. لكن زيباري لم يحضر. وفي الأيام التالية أيضاً تعذر الاتصال بزيباري فلم يستطع القياديون الثلاثة الآخرون اتخاذ قرار في غياب زيباري. أخيراً عدت إلى جنيف في 27/3 وطلبت من التكريتي مزيداً من الوقت، لكنه غضب واتهمنا بالتسويف والسعي إلى كسب الوقت، لاعتقادنا بأن أميركا وبريطانيا ستساعداننا، بحسب تعبيره. في السادسة مساء اليوم ذاته اتصلت للمرة الاخيرة من غرفتي في الفندق بفؤاد معصوم، فأبلغني بتعذر اجتماع الأربعة معاً لذا لا قرار. وفي 28/3 شنت قوات الحرس الجمهوري الهجوم على كركوك. لماذا تراجعت السعودية عن دعم الانتفاضة؟ ما سلف رواية قزاز للاتصالات مع برزان التكريتي في جنيف. من جهتي تستدعي الموضوعية أن أسمع رأي الطرف الآخر وتفسيره لما حدث فاتصلت وأنا أكتب هذه السطور من لندن بهوشيار زيباري في منتجع صلاح الدين، وقلت له إنني أنوي نشر قصة قزاز وطلبت منه أن يوضح رأيه في روايته للأحداث. زيباري أكد أن غيابه لم يكن عن عمد، بل كان بسبب دعوة عاجلة من السعودية للسفر إلى الرياض للبحث في دعم الانتفاضة. وأوضح أن “السعوديين دعوا وفداً مشتركاً من الحزب الديموقراطي الكردستاني وحركة الوفاق وحزب الدعوة للبحث في خطة تدعم السعودبة بموجبها الانتفاضة في العراق كله، لإطاحة صدام وان مشاركة هذه الجهات تعني تمثيل الشيعة والسنة والكرد”. وتابع أن الوفد “ضم إضافة إليه ومحسن دزه يي، إياد علاوي وصلاح عمر العلي عن حركة الوفاق وابراهيم الجعفري وحيدر العبادي وموفق الربيعي عن حزب الدعوة”. وختم بأن هذا هو السبب الوحيد لغيابه، لكنه لم يستطع أن يكشف الأمر في حينه. لكن السؤال الذي كان يشغل بالي وقتها هو، لماذا تراجعت السعودية عن دعم الانتفاضة؟ في إطار الدراسة التي كان يفترض إنجازها عام 1993 مع الباحثة ميلروي في معهد واشنطن لشؤون الشرق الأدنى، ولم تكتمل كنا أجرينا لقاء خاصاً مع زيباري في منتجع صلاح الدين حول موقف السعودية في ضوء زيارته الرياض في آذار/ مارس 1991. زيباري أوضح أنه التقى مسؤولين سعوديين في مقدمهم الأمير تركي الفيصل وأنه، اي زيباري، شدد لهم على أن الكرد لا يسعون إلى الانفصال عن العراق. وبحسب زيباري فإن السعوديين كانوا “متحمسين” لدعم الانتفاضة وقبول طلبات الطرف الكردي. لكن مع حلول نهاية الشهر وبعدما ظل منتظراً بضعة أيام للاجتماع مع المسؤولين السعوديين مجدداً للبحث عملياً في طلبات الطرف الكردي، أبلغه مضيفوه بأن بطاقة السفر لعودته إلى لندن جاهزة ففهم أنهم غيروا موقفهم فعاد إلى لندن خالي الوفاض. لكن ماذا حدث خلال وجود زيباري في الرياض كي تتراجع السعودية فجأة عن دعمها الانتفاضة؟ لمزيد من التوضيح أعود إلى قصة قزاز لكونها ذات صلة. ففي ختام روايته عن الاتصالات مع برزان التكريتي في جنيف، أخبرني بانه كان في شقته اللندنية مساء 28/ 3 أي بعد يوم واحد من بدء الهجوم العراقي المضاد على كركوك ومناطق أخرى في كردستان، عندما زاره فجأة من دون موعد مسبق الصحافيان الأميركيان جون كولي وتشارلز غلاس وكانا يعملان وقتها في محطة تلفزيون “آي بي سي”. غلاس قال لقزاز إنه كان في كردستان حيث التقى بارزاني وشخصيات أخرى. وأضاف أنه وكولي علما باتصالات قزاز مع التكريتي في جنيف، وأوضحا أن معلوماتهما تفيد بأن مستشار مجلس الأمن القومي الأميركي وقتها برينت سكوكروفت زار السعودية ودولاً أخرى في المنطقة ويعتقدان، أنه ربما زار جنيف أيضاً، لكن وزارة الخارجية الأميركية رفضت أن ترد على استفسارهما في هذا الخصوص أو ما إذا كانت واشنطن شجعت الكرد على التفاوض مع بغداد. لذا طلب غلاس من قزاز أن يكشف ما حدث أمام عدسة التلفزيون، مضيفاً أن فريقاً للتصوير موجود أمام العمارة لإجراء المقابلة معه فوراً. قزاز اتصل بمحمد توفيق وفؤاد معصوم ومحسن دزه يي فأجمعوا على رفض الطلب وشددوا على ضرورة التزام الصمت والامتناع عن الحديث في الموضوع.  “السعوديين دعوا وفداً مشتركاً من الحزب الديموقراطي الكردستاني وحركة الوفاق وحزب الدعوة للبحث في خطة تدعم السعودبة بموجبها الانتفاضة في العراق كله، لإطاحة صدام وان مشاركة هذه الجهات تعني تمثيل الشيعة والسنة والكرد” لتسليط مزيد من الضوء على هذه التطورات أضيف أن مستشار الأمن القومي الأميركي برنت سكوكروفت زار الرياض فعلاً في 27/3/1991 وكان يرافقه مستشار شؤون الشرق الأوسط في مجلس الامن القومي وقتها ريتشارد هاس. وكان ذلك بعد يوم واحد من القرار الأميركي سيئ الصيت بالسماح للنظام العراقي باستخدام طائرات الهليكوبتر الحربية، التي استخدمتها القوات العراقية فورا لشن الهجوم على الانتفاضة الكردية اعتباراً من 28/3. الرأي السائد بين شخصيات عراقية معارضة وأوساط مطلعة في واشنطن هو أن الإداراة الإميركية تبنت الرأي القائل إن انقلاباً عسكرياً أو من داخل النظام يمكن أن يحدث، وذلك أفضل من استمرار انتفاضة قد تؤدي إلى الفوضى وتفكيك العراق. وفي الإطار، فإن سكوكروفت وهاس ضغطا على السعوديين لتغيير موقف الرياض والتراجع عن دعم الانتفاضة. وكنت تابعت هذا الموضوع لاحقاً عندما رتب لي معهد واشنطن لشؤون الشرق الأدنى لقاء مع ريتشارد هاس في أواخر حزيران/ يونيو 1993 وكان آنذاك باحثاً رئيساً في “مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي” في العاصمة الاميركية. زرته في مكتبه وبعد تبادل الحديث عن أوضاع العراق تطرقت إلى زيارته وسكوكروفت إلى الرياض في 72/3 وأكد لي أن السعوديين كانوا في البداية عازمين على دعم الانتفاضة، لكنهم تراجعوا عن ذلك إثر زيارته وسكوكروفت الرياض. وسألته مباشرة هل غيروا رأيهم عن قناعة أم لأن هاس وسكوكروفت ضغطا عليهم لتغيير موقفهم؟ فوجئت برد فعل غريب من هاس. رأيت وجهه يزداد احمراراً، ثم نهض من مكانه مرتبكاً، وقال بحدة إنه ليس مستعداً للإجابة على هذا السؤال وأي سؤال آخر، لذا فإنه لا يريد استمرار اللقاء. من جهتي، نهضت ولملمت أوراقي وودعته وغادرت مكتبه، متوجهاً نحو المصعد لكنه لحقني قبل أن يصل المصعد واعتذر عن رد فعله السلبي ودعاني إلى العودة إلى مكتبه مجدداً، فوافقت. عاودنا الحديث فقال إنه لا يستطيع أن يجيب على أسئلة تكشف أموراً، لا يستطيع أن يكشفها، فواصلنا الحديث في قضايا أخرى. أكملت اللقاء وخرجت من مكتبه بقناعة تامة بأن رد فعله العنيف على سؤالي كان دليلاً مقنعاً كافياً لي على أنه وسكوكروفت مارسا بالفعل ضغطاً على الرياض لتغيير موقفها من الانتفاضة في العراق. هكذا نحج النظام العراقي في سحق الانتفاضة لتبدأ أكبر عملية هجرة للمدنيين الكرد عبر الجبال باتجاه تركيا وايران ليتبعها القرار الاميركي بدعم إقامة الملاذات الآمنة لإعادة الكرد إلى ديارهم ومن ثم بدء المفاوضات بين القيادة الكردية وبغداد وموقف الأميركيين والروس منها. وفي هذا الإطار، يأتي اتصالي بطلب من جلال طالباني بالسياسي السوفياتي يفغيني بريماكوف الذي كان توسط في مفاوضات 1970 لتحقيق الحكم الذاتي للكرد في العراق. 


  تحسين قادر     مقدمة   لم يكن العراق عبر التاريخ المعاصر بلداً موحداً، إذ تم بعد الحرب العالمية الأولى ربط الولايات الثلاث، البصرة وبغداد والموصل وإلحاق جنوب كردستان قسراً بها بغرض تشكيل العراق الحالي منها. لا يمتلك أي من المكونات العراقية أي انتماء حقيقي للعراق، فكل منها ينتمي إلى نفسه وإلى الجذور الإثنية والمذهبية لھا خارج العراق، أكثر من انتمائه إلى العراق.   العراق الموحد   على مدى القرن العشرين وما مر من القرن الحادي والعشرين ظهرت أربعة اتجاهات سعت إلى تأسيس العراق الموحد وإعطاء المكونات القومية والدينية والمذهبية الهوية العراقية: الاتجاه الأول: محاولة الإنكليز وفئات من الشخصيات البارزة للمكونات (بخاصة النخبة العربية السنية)، إذ كانوا يرومون تأسيس بلد دستوري تكون المواطنة فوق كل الاعتبارات والانتماءات الأخرى. لكن المشكلات البنیویة للمجتمع كانت عقبة أمام نجاح هذا الاتجاه، ومع حلول 14 تموز 1958 وإسقاط الملكية وتعطيل البرلمان وغروب سلطة الإنكليز.. فشلت تلك المحاولة. الاتجاه الثاني: كان الحزب الشيوعي العراقي يسعى إلى تأسيس «وطن حر وشعب سعيد» من منظور وحدة الطبقة العاملة العراقية، إلا أن مسعى هذا الحزب لم يحالفه النجاح رغم النضال الدؤوب والتضحيات الكثيرة له. وبسبب تفاقم أسباب ذاتية وموضوعية، داخلية وعالمية، لم يستلم هذا الحزب السلطة، وفي النهاية تكبد خسائر فادحة، وراحت أتعابه أدراج الرياح، إذ تغلغله الانشقاقات والانقسامات، ورغم إخلاص الحزب ونواياه الطيبة، فإنه لا يستطيع اليوم، إلا بصعوبة بالغة جداً، الحصول على مقعد واحد في برلمان العراق أو في برلمان إقليم كردستان. ففي العراق والإقليم، يطغى ويسيطر القادة والعشائر والأحزاب المؤسسة باسم الدين والقومية والميليشيات على الوضع والموقف. الاتجاه الثالث: الدكتاتورية والحزب الشمولي النامي بين السنة باسم الاتجاه القومي العربي، التي حكمت العراق من 1963 حتى 2003 بالحديد والنار ولم تتورع عن ممارسة العنف والإبادة الجماعية باسم عمليات الأنفال للمكون الكردي، وممارسة أقسى أنواع القتل والظلم إزاء الشيعة والمكونات الأخرى وكافة أنواع وأطياف والمعارضة! وفي النتيجة تسببوا في اشتعال حروب داخلية  و خارجية متتالية.. ومن جانب آخر أبعدوا الشيعة والكرد عن السنة، وجعلوا من العراق سجناً وجحيماً للجميع (ما عدا الأقلية الحاكمة المتسلطة). الاتجاه الرابع: وفي عام 2003 استأنفت وعاودت القوات الأمريكية المحاولة الانكليزية الفاشلة، بغية تأسيس عراق جديد يضم جميع المكونات مع الحقوق المتساوية، ومن أجل ذلك فرضت – عنوة – دستور عام 2005. في الحقيقة، لم يكن عراق ما بعد 2003 جديداً بل كان محاكاة سافرة للعراق القديم، ولم يكن حديثاً بل كان قديماً من ثلاثة جوانب: 1- كانت النخبة وأصحاب القرار العربي يحملون الأفكار والبنى الأيديولوجية التقليدية للعراق القديم. 2- كان الطرف الكردي ملتزماً وأسيراً بفكرة الحكم الذاتي والاكتفاء به والحفاظ على وحدة العراق القديم. وما مشاركة هذا الطرف في العملية السياسية في العراق إلا من أجل المال والمحاصصة الإدارية والامتيازات الشخصية والأسرية والحزبية. في الحقيقة، لم يكن القادة الأكراد والأحزاب الحاكمة في كردستان عراقيين ولا كردستانيين في الفكر والممارسة، بل كانوا ولا يزالون يفتقرون إلى استراتيجية قومية ووطنية واضحة ومدروسة، واتبعوا سياسة يومية وقصيرة الأمد للاحتفاظ بالسلطة وجمع المال لهم ولأبنائهم وذويهم. 3- أصر المجتمع الدولي - وبالأخص أمريكا - على إبقاء العراق القديم موحداً من منظور الجيوستراتيجية القديمة للحفاظ على توازن القوى في الشرق الأوسط، بخاصة في منطقة الخليج لصد المخاطر الإيرانية. ويتضح ذلك من خلال ملاحظة الأمريكيين أن القادة الكرد (مثلما روى ذلك بريمر في مذكراته)، كانوا يولون المال أهمية كثيرة لهم ولأحزابهم... فلجأوا إلى اتباع سياسة الترغيب، لترويضهم وإقناعهم، فتيسر لهم تشكيل العراق القديم من جديد من دون أن يواجهوا أي مشكلة. ونظراً لغياب ثقافة الديمقراطية وعدم الإيمان بسيادة القانون، وحرية التعبير والمساواة بين الأقوام والأديان والطوائف وحقوق الإنسان، باءت هذه المحاولة أيضا بالفشل، فأهملَ المكونُ الشيعي، بحكم الأكثرية في البرلمان والحكومة، تطبيقَ معظم فقرات الدستور (على سبيل المثال تشكيل المجلس الفيدرالي والمادة 140). وفي الوقت الراهن يتراجع الشيعة عن الدستور بشكل رسمي وفعلي، يظهر ذلك من خلال اتخاذ الموقف المتشدد والمتشنج إزاء حقوق ومستحقات الإقليم، وإهمال حل مشاكل المناطق المتنازع عليها وحسمها، وإصدار عدد كبير من القوانين التي تحط وتقلل من قيمة وأهمية حقوق الإنسان! ويشكل ذلك إحباطاً كبيراً لأمريكا بعد أفغانستان، خلال العقدين المنصرمين من القرن الحادي والعشرين، لذلك يُعد انسحاب أمريكا وقواتها أمراً متوقعاً. يسلط المفكر الأمريكي فرانسيس فوكوياما في كتابه الموسوم (بناء الدولة) الضوءَ على ذلك الإحباط والتراجع الأمريكي. ومن الأهمية بمكان، أن نذكر الجميع في هذا السياق، أن المفكر الكردي الدكتور برهان ياسين (الأستاذ الجامعي في السويد) قد أطلعَ القادةَ على مجموعة من التوقعات والسيناريوهات، في رسالة له وجهها إلى الحزبين الحاكمين في كردستان، منها مخاطر إعادة وتكرار المشروع البريطاني في ثوب أمريكي وتوقع إحباط هذا المشروع، مثلما وجدنا فشل المشروع البريطاني مع انهيار النظام الملكي السابق. لقد صاغ الدكتور برهان ياسين توقعه هذا في سؤال: إذا كان المشروع البريطاني العراقي الداعي الى توحيد العراق قد انتهى في الثمانين سنة الماضية بتاريخ مليء بالدماء. فما الذي يضمن أن يكون المشروع نفسه ناجحاً في ثوبه وصيغته وصبغته الأمريكية. وفي الرسالة نفسها يثير الدكتور برهان سؤالاً مهماً أمام قيادة الحزبين، الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني حين يقول متسائلاً: هل يشترك الكرد ويسهم في تأسيس وتشكيل دولة من جديد ثم ينصرف بعدئذ الى المطالبة بحقوقه من الدولة نفسها؟ بإمكان القارئ قراءة الرسالتين في الرابط أدناه: http://burhanyassin.com/2%20name%20bo%20hkumetekan   ولابد من القول، أن الدكتور برهان قد انصرف منذ سنوات الى التنظير لخيبات أمل ثلاث: (ولمزيد من التفاصيل، ممكن الاطلاع على الرابط أدناه: http://burhanyassin.com/Helbijardinekan-dr.%20Burhan%20Yassin   1- خيبة الأمل الناجمة عن موقف السنة ازاء الشيعة وموقف الشيعة ازاء السنة. 2- يأس الكرد من موقف الشيعة والسنة على حد سواء. 3- خيبة أمل أمريكا من مشروع العراق الموحد (عراق الشيعة والسنة والكرد)، أي اليأس من وهم العراق الجديد الذي أرادت أمريكا تشكيله لتضمن فيه مصالحها وتسعى إلى الحفاظ عليه. يعتقد الباحث أن أحد السيناريوهات القوية المتوقعة هو وصول تلك الخيبات الثلاث إلى القمة في وقت واحد، حينئذ يصبح تفكك العراق أمراً حتمياً). ويبدو أن المصالح الأمريكية والفرص والتهديدات في الشرق الأوسط التي تتمثل في (النفط والغاز، الأمن الإسرائيلي، الأسلحة النووية الفتاكة والعنف والإرهاب الإسلامي) يعاد النظر فيها، بمعنى أن الحكومة الأمريكية لا تتخلى عن مصالحها الاستراتيجية في المنطقة، بل يتم العمل والتعامل معها بوسائل وسبل مختلفة، منها تطبيع العلاقات بين إسرائيل والدول العربية التي بدأت بالإمارات والبحرين، والتي بالتأكيد ستعقبها سيناريوهات أخرى.   تجربة جنوب كردستان   كانت كردستان على مدى التاريخ ضحية المعادلات الدولية والإقليمية، ناهيك عن العوامل الداخلية. ولقد طرأت تغيرات على المعادلات الدولية منذ عام 1991 لصالح جنوب كردستان، وإن أهم ما تمخض عن هذا التغيير هو انتخابات البرلمان وتشكيل حكومة إقليم كردستان في عام 1992. ومنذ عام 2003 استطاع الكرد بسط سيطرتهم على غالبية جنوب كردستان، من ضمنها مدينة كركوك، وسنحت الفرصة الذهبية لبناء حاضر ومستقبل مشرق للجميع. ولكن لعدم وجود قيادة تاريخية، والتحزب والصراع بين الأحزاب الحاكمة على السلطة والمال، لم يوضع ويُشرّع دستور لإقليم كردستان، وكنا نأمل ذلك، بعد أن توفرت آنذاك فرص ثمينة، قبل وضع الدستور للعراق. ولم يُبذل (في السنوات الخمس عشرة الأخيرة) أي جهد باتجاه تحقيق ذلك، حيث لم تؤسس أجهزة ومؤسسات دستورية، ولم تفصل السلطات عن بعضها البعض، ولم تتحول الأحزاب إلى أحزاب مدنية مجردة من السلاح، ولم تُوحد قوى البيشمركة في إطار جيش نظامي وطني موحد، وأُهمِلَ تشيكلُ محاكم عادلة جريئة ونزيهة، ولم يكترثوا لإجراء الانتخابات في أجواء حرة ونزيهة، ليتم تداول السلطات في جو سلمي آمن.  ومن جانب آخر لم تتم صياغة البنى الاقتصادية والمالية المنتجة. وإضافة إلى ذلك لم يوضع نظام مصرفي وضريبي لضمان معالجة البطالة، ولم نجد تحركاً جدياً بهدف إنشاء سوق حرة، ولم تجر إحصائية، من جانب آخر لم يتم الحفاظ على حرية التعبير وحقوق الإنسان والسعي لتحقيق المساواة بين الجنسين..... صفوة القول إنهم حالوا دون تحويل المجتمع المتحزب المسلح إلى مجتمع مدني حقيقي!   التشاؤم إزاء مستقبل العراق والإقليم   سأكون متشائماً في هذه الظروف بصدد توجه العراق، في ظل هذا النهج والبنى الطائفية المسلحة، نحو التمدين ومعالم الدستور، وقس على هذا النحو كردستان حيث لا نرى في ظل حكم القادة الجائرين والأحزاب المسلحة أي أفق رائق وواضح يبشر بالخير. لقد عانينا الدمار ورأينا أشباح الحروب وعمليات الأنفال العسكرية والإبادة الجماعية، وهذه كلها تجارب مريرة في ماضينا، يُتَوَقَعُ ونتوقع حدوثها في راهننا ومستقبلنا کما جرى للإيزيديين. إنها تجارب تسبقنا وتعيش معنا، حيث اقترفت جرائم إبادة بنوايا وأغراض طائفية ومذهبية مختلفة في بداية ظهور داعش وزواله. وبعد استفتاء 25 أيلول وهجمات 16 أكتوبر 2017 على سكان كركوك والمناطق المتنازع عليها.  ففي ظروف كهذه تتخلف الحالة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية للعراق وكردستان وتتفاقم أكثر حد الوصول إلى الانهيار والانحلال. ولا تثمر علاقات سلطات المركز مع سلطة الإقليم شيئاً لصالح الطبقات المسحوقة في كلا الطرفين، بل تصب في مساومات رخيصة وقصيرة الأمد للذود عن الامتيازات الشخصية والعائلية والحزبية لحكام كلا الطرفين، العراق والإقليم معاً. ينال الشعب المظلوم في كردستان والعراق بشكل عام القسط الأوفر من البؤس والفاقه والعوز وخصوصا سكنة مناطق كردستان الخارجة عن حدود الإقليم، والأقليات القومية والدينية للمنطقة.. فيكونون الضحية الأولى في الصراع مثلما كانوا في الماضي.   بصيص أمل   إن توعية الفرد وتقويته لينال حريته وليتمتع بها، والوصول إلى قناعة تفيد ضرورة تَكَّون وبناء المجتمع من أفراد أحرار في ظل المساواة والعدالة على أساس المواطنة، وتمييزهم وتنظيمهم في إطارات مدنية متنوعة، خارج الحزب والسلطة المستبدة الفاسدة في العراق وكردستان، وبناء الحوار وتوطيد جسر العلاقات المتنوعة بين الأكاديميين والناشطين المستقلين ومنظمات المجتمع المدني في العراق والإقليم، تكون مفتاحاً لحل الأزمات. إن إحدى المشاكل الكبرى التي خلقت البؤس للشعب الكادح من كلا الطرفين، هي هذا الإطار العراقي المصطنع قسراً! الذي لا يستفيد منه سوى القادة الفاسدين والأحزاب والميليشيات العائدة لكلا الطرفين، لقد جعلوا من هذا الاطار حجة لعسكرة المجتمع وإشعال الحروب المتتالية التي لا يقف وراءها أي مبرر. «فالفاشية تولد الحرب.. وتخلق الحرب الفاشية». من جانب آخر نرى أن كل طرف يلقي باللائمة على الطرف الآخر لإخفاء عيوبه ونواقصه الصارخة في الإدارة والحكم الرشيد. فعلى سبيل المثال تجعل الحكومة العراقية مسألة النفط والمعابر الحدودية وعدم تسليم الموارد الداخلية من قبل الإقليم حجة لإخفاء مساوئ حكمها الطائفي والفاسد، فيستشهد بأن الإقليم كله لا يساوي محافظة البصرة من حيث سعة الموارد!. ومن جانب آخر اتخذت حكومة الإقليم من قطع رواتب الموظفين من قبل بغداد حجة تغطي بها إحباطها وعجزها في إدارة الحكم وفسادها المستشري في كردستان منذ ثلاثين عاماً! ففي ظرف كهذا فشلَ المجتمعُ السياسي وأجهزة الحكم في العراق وكردستان في إدارة حكم البلد، وتطبيق الدستور، وحماية السلم والوئام الاجتماعي وحفظ حقوق الإنسان، وتأمين الحياة والعيش وضمان رواتب الموظفين. نعم فشلت في حماية الحدود وسيادتها على سماء وأرض البلد... والأخطر والأنكى من ذلك كله عدم تحقيق المساواة والوئام بين المكونات، بل على العكس من ذلك خُلقت وتُخلق أزمات مستدامة بينهما، إلى حد النزاع العنيف والحروب التي راح أبناء الفقراء ضحايا فيها وأصبحوا وقوداً لنارها. من هنا ولهذا، سيكون حوار المفكرين والأكاديميين والنشطاء والمنظمات المدنية والنقابات الحقيقية والمتظاهرين لكلا الطرفين حول المواضيع كلها، بخاصة ما يتعلق بحق تقرير المصير وتفكيك هذا الإطار الخالق للأزمة والجور، شيئاً مصيرياً للجميع. وإن تحقيق حق تقرير المصير لشعب كردستان وكافة المكونات العراقية يخدم الجميع من دون أي تمييز. وأود أن أقول بالتحديد، بقدر ما يكون استقلال كردستان مفيداً وضرورياً لشعب كردستان، بقدر ما يكون، بل على نحو أكثر، ضرورياً لتحرر شعب العراق وكافة مكوناته. إن تغيير السلطة ونجاح النضال المدني والتخلص من هؤلاء القادة المستبدين والأحزاب الفاسدة والميليشيات العائلية والطائفية سيكون أسهل ويتيسر لكل مكون، إذا استقل الأكراد و المکونات و أصبح لهم كيانهم الخاص.


 عبد الرحمن الراشد   واحدة من الإشكالات الخطيرة التي واجهت السعودية، وبقية الدول الحليفة للولايات المتحدة في الفترة الرئاسية الثانية لباراك أوباما، فلسفتها لما تراه استراتيجية للمرحلة الجديدة. أوباما كرَّر الحديث عنها لكنَّها كانت تعكس رؤية فريق كبير من راسمي السياسة العليا. باختصار شديد، يرى هؤلاء أن مفهوم المصالح العليا تغير كثيراً عمَّا كان عليه بعد مرحلة الحرب العالمية الثانية. الصين، وليست روسيا، هي التحدي الاقتصادي والسياسي، والمصالح مع شرق آسيا. التوجه شرقاً سيكون على حساب الغرب والشرق الأوسط الذي تراجعت أهميته مع تزايد إنتاج أميركا للبترول الصخري فجعلها دولة مصدرة وغيّر تاريخاً طويلاً من العلاقة بين الجانبين. بدأ الانسحاب العسكري الأميركي من المنطقة وتراجع النشاط السياسي بناء عليه. لكن السنوات التالية بيَّنت أنَّ الأمور لم تكن بتلك البساطة. فالتهديد النووي الإيراني خطر عالمي وإن كان بعيداً. الإرهاب يمكن أن يعود ويهدد الولايات المتحدة في عقر دارها. والصين نفسها تزحف باتجاه آسيا وأفريقيا وتستولي على المناطق التي رسمتها على خريطة مشروعها الضخم «الحزام والطريق» الذي يتمدد مثل التنين إلى جنوب شرقي آسيا وأوقيانوسيا وأفريقيا وآسيا والشرق الأوسط وطريق بحر الشمال الروسي، ووقعت مع بكين 126 دولة، وأصبحت باكستان تقريباً صينية، بعد أن كانت سابقاً في الفضاء الأميركي. دول النفط الشرق الأوسطية مهمة للغاية كونها المورد الأول للطاقة، والسعودية أكبر مصدر نفطي للصين. هذه تجعل واشنطن تعيد تفسير مفهوم المصالح العليا في ضوء تنافسها الدولي. هذه الصورة من فوق للعلاقات الدولية وعودة التنافس على المنطقة. والتفاصيل الصغيرة لا تخرج عنها. ليست للولايات مصلحة في ترك اليمن مثلاً دولة فاشلة وبؤرة تنمو فيها الميليشيات الحوثية و«تنظيم القاعدة» وتصبح تحت سيطرة إيران. وهي لا تريد القتال هناك، وبالتالي ليس لها خيار سوى دعم التحالف العربي بقيادة السعودية. من جهة تريد واشنطن إرضاء المنظمات التي تدعو لوقف الحرب لأسباب إنسانية، لكنها لا تملك حلاً ينهي سبب المأساة الحقيقي وهو استيلاء الحوثيين على اليمن. ومن جهة أخرى يريد بايدن دعم التحالف وتعزيز نفوذ بلاده من دون التورط العسكري مباشرة. والحقيقة أن إدارتي أوباما وترمب السابقتين كانتا مع دعم التحالف وبيعها الأسلحة رغم التصريحات التي توحي بعكس ذلك. وحتى ما هلَّلت له وسائل الإعلام المعادية برفع إدارة بايدن اسم الحوثي من قائمة الإرهاب لتعكس قرار إدارة ترمب، فإنَّ القرار ينسجم مع بحثها عن حل سلمي حيث لا يمكن التفاوض مع الحوثيين إذا كانوا على قائمة الإرهاب. ولا بد من التذكير أن ترمب لم يصنف جماعة الحوثي إرهابية إلا قبل 10 أيام من خروجه من الرئاسة. أما تصريحات واشنطن ودعواتها للسعودية ومصر ودول المنطقة حول تعاملها مع ما تعتبره قضايا حقوقية والمطالبة بالإفراج عن موقوفين، فهو عرف يتكرَّر مع معظم الحكومات الأميركية، لكنَّها لا تستطيع أن تفرض على هذه الحكومات تغيير قوانينها ولا الإفراج عمن تعتبره يهدد أمنها. وقد تغادر الإدارة الأميركية الحالية من البيت الأبيض بعد سنوات قبل أن يخرج المحكومون في مدد طويلة. لهذا فإنَّ المراهنة على بايدن وإدارته في تغيير الأوضاع أو فرض الضغوط لا تنسجم مع المصالح العليا لهذه الدول المقدمة على مصالح الأفراد. كما أن تسويق مفهوم الوصاية والإملاء هو جزء من دعاية القوى العاجزة. الدول العربية تعرف أن المصالح طريق من مسارين. والولايات المتحدة كدولة في الأخير تحكم مصالحها مع دول المنطقة، وإلا لن تجد عندها اهتماماً بقضاياها أو شكاواها.   الشرق الاوسط


حسني محلي  تضع الأوساط التركية الرسمية العديد من السيناريوهات في ما يتعلق بالسياسات المائية التي تتضمّن دراسات جدية حول مصادر المياه، ومنها الأمطار والمياه الجوفية، إضافةً إلى الأنهار المذكورة التي يزيد عددها على 100 نهر.  بعد أن أصبحت تركيا طرفاً أساسياً في مجمل تطورات الملف السوري مع سنوات ما يسمى بـ"الربيع العربي"، وضعت أنقرة العديد من السيناريوهات والحسابات لعلاقاتها المستقبلية مع دمشق، وعبرها مع باقي دول المنطقة، وفي مقدمتها العراق المجاور لتركيا وسوريا وإيران.  وتأتي مياه الفرات ودجلة والأنهار الصغيرة الأخرى (حوالى 12 نهراً مع سوريا و3 مع العراق) ضمن هذه الحسابات، وخصوصاً مع استمرار مواسم الجفاف التي يبدو أنها ستنعكس بشكل أو بآخر على سياسات أنقرة المائية مستقبلاً مع الدولتين المذكورتين.  وكانت مياه الفرات دائماً مادة مهمة في المساومات التركية مع سوريا والعراق معاً أو على انفراد، منذ أن بدأت تركيا ببناء السّدود على نهر الفرات، وأولها سدّ كابان الذي تمّ افتتاحه في العام 1974، ثم سدّ كاراكايا في العام 1987. وكان سدّ أتاتورك الذي تمّ افتتاحه في العام 1991 هو الأهم في أزمة المياه بين تركيا وكل من سوريا والعراق، وخصوصاً بعد أن قال رئيس الوزراء سليمان ديمريل في العام 1991 "إن الدول العربية تبيع نفطها، فلماذا لا نبيع أيضاً مياهنا؟".  وقد أصرّت أنقرة منذ البداية على بناء السّدود بعد أن رفضت التوقيع على الاتفاقية الدولية (1997) التي تنظم عملية الاستخدام المشترك لمياه المجاري الدولية المشتركة، ومنها النيل والفرات ودجلة، وهي تقول إنّ الأخيرين نهران تركيان عابران للحدود، وليسا نهرين مشتركين، ومن حقّها التصرف بمياهها كما تشاء، مع مراعاة مصالح دول المصب.  تعود جذور أزمة المياه التركية مع سوريا والعراق إلى العام 1920، عندما تم التوقيع على اتفاقيات "ثلاثية وثنائية" بين وتركيا وكل من سوريا (مستعمرة فرنسية) والعراق (مستعمرة بريطانية) لتقسيم المياه وفق المعايير الدولية المتبعة آنذاك. وتضمّنت اتفاقية "لوزان" (1923) التي اعترفت الدّول الغربية بموجبها بالجمهورية التركية الحديثة، وريثة الدولة العثمانية، بنداً خاصاً بنهري دجلة والفرات جاء فيه: "لا يحق لأية دولة من هذه الدول الثلاث إقامة سد أو خزان أو تحويل مجرى نهر من دون أن تنسق مع الدول الأخرى لضمان عدم إلحاق الأذى بمصالحها".  ومع استقلال سوريا والعراق، بقيت المياه مشكلة أساسية تعرقل إقامة علاقات ودية دائمة بين الدول الثلاث التي لديها ما يكفيها من المشاكل الأخرى التي منعتها من تطوير العلاقات في ما بينها، مع استمرار الشكوك السورية والعراقية دائماً باحتمالات أن يستخدم الجانب التركي المياه كسلاح ضدها. وقد بيّنت وثائق السفارة الأميركية في طهران (4 تشرين الثاني/نوفمبر 1979) "أن المخابرات الأميركية CIA اقترحت على مدير عام مؤسسة المياه الوطنية سليمان ديميريل في العام 1955-1956 بناء سدود كبيرة على الفرات، لتكون سلاحاً بيد أنقرة ضد سوريا التي كانت علاقاتها سيئة آنذاك مع تركيا". ويفسر ذلك فشل الاتفاقية التي وقع عليها الرئيس تورغوت أوزال في العام 1987 مع الرئيس الراحل حافظ الأسد، بعد أن تأثرت بالتوترات التي شهدتها العلاقات بين البلدين، بسبب اتهام أنقرة لدمشق بدعم حزب العمال الكردستاني، إذا ما تجاهلنا قضية لواء الإسكندرون ذات التأثير النفسيّ. وقد تعهّد الجانب التركي وفق اتفاقيّة 1987 بترك 500 متر مكعب في الثانية من مياه الفرات لكل من سوريا (42%) والعراق (58%)، على أن تزداد هذه الكمية لتصل بعد 5 سنوات إلى 650 متراً مكعباً، مقابل تخلي دمشق عن هذا الدعم، من دون أن تمنع هذه الاتفاقية أنقرة من بناء سدي بيراجيك (50 كم عن الحدود مع سوريا) وقرقميش (على بعد 3 كم من الحدود السورية) وسدين على نهر دجلة، فيما تخطط مؤسسة المياه الوطنية لبناء ما مجموعه 22 سداً على النهرين المذكورين، لتصل كمية المياه التي سيتم تخزينها في هذه السدود إلى حوالى 140 مليار متر مكعب. وتخطّط أنقرة لريّ 1.8 مليون هكتار من الأراضي الزراعية بهذه المياه، كما تهدف إلى توليد 27 مليار كيلو واط /ساعة من الكهرباء (23% من استهلاك تركيا) من هذه السدود، إضافةً إلى حوالى 750 سداً بمختلف الأحجام (550 منها سد كبير) بنتها تركيا على عشرات الأنهار الصغيرة والكبيرة، ويزيد طولها داخل الحدود التركية على 20 ألف كم.  وجاءت أقوال الرئيس إردوغان الأسبوع الماضي، إذ قال "إن تركيا ليست غنية بالمياه، كما يعتقد البعض"، لتثير العديد من التساؤلات حول احتمالات استخدام المياه كسلاح في مساومات أنقرة المحتملة مع سوريا والعراق، والأهمّ مع "قسد" ووحدات حماية الشعب الكردية التي تسيطر على شرق الفرات بدعم من واشنطن، التي تتخوّف أنقرة من أن تسعى إلى إقامة كيان كردي مستقل في المنطقة، كما هو الحال في الشمال العراقي.  وتضع الأوساط التركية الرسمية العديد من السيناريوهات في ما يتعلق بالسياسات المائية التي تتضمّن دراسات جدية حول مصادر المياه، ومنها الأمطار والمياه الجوفية، إضافةً إلى الأنهار المذكورة التي يزيد عددها على 100 نهر.  وتقدّر هذه الدراسات الطاقة الإجمالية للمياه السطحية (الأمطار) والجوفية التي يمكن الاستفادة منها بحوالى 115 مليار متر مكعب، يتم استغلال حوالى 60 مليار متر مكعب منها سنوياً. ودفعت هذه الأرقام أنقرة إلى تنفيذ العديد من المشاريع لبناء السدود الجوفية، وهي تقنية جديدة تساهم في تخزين المياه الجوفية، كما هو الحال في الأنهار التي تبني عليها أنقرة سدودها.  ولم تمنع هذه الحسابات أنقرة من الاستمرار في بناء مئات السدود على عشرات الأنهار التي تنبع في أراضيها وتصب في البحار (إيجة والأبيض المتوسط ومرمرة والأسود)، أو تغادرها إلى دول مجاورة أخرى، ومنها إيران وجورجيا وأرمينيا وبلغاريا واليونان، أو تأتيها من هذه الدول، في الوقت الذي نجحت تركيا في مد الأنبوب (80 كم) الذي ينقل المياه تحت البحر (75 مليون متر مكعب سنوياً) إلى شمال قبرص التركية مع حسابات لبيع هذه المياه للقبارصة اليونانيين، وحتى "إسرائيل"، فقد فشل الرئيس الراحل تورغوت أوزال في مشروعه لمد أنابيب المياه إلى "إسرائيل" مروراً بسوريا ولبنان، وأنبوب آخر يمتد إلى دول الخليج عبر الأردن لبيع مياه نهري سايهان وجايهان لهذه الدول. وترى العديد من الدراسات الأكاديمية في الغرب في المعطيات التركية سبباً كافياً لتخوّف كل من العراق وسوريا من الانعكاسات المحتملة لسياسات أنقرة مع الدولتين المذكورتين بالعنصر الكردي فيهما، فالجميع يعرف أن تنفيذ أنقرة مشاريعها على نهري الفرات ودجلة والأنهار الصغيرة الأخرى سيضع العراق وسوريا أمام تحديات جدية ستكون لها انعكاسات خطيرة على الزراعة والأمن الغذائي ومياه الشرب وتوليد الطاقة، وخصوصاً مع التقلبات البيئية التي تهدد بسنوات الجفاف، وفق كل الدراسات العلمية عالمياً.  ومع استمرار أنقرة في سياساتها الحالية في سوريا والعراق، بات واضحاً أنها، عاجلاً أم آجلاً، ستستخدم المياه كورقة مؤثرة في مساوماتها مع دمشق وبغداد والكرد، المستفيد الأول من مياه الفرات ودجلة وباقي الأنهار الصغيرة، باعتبار أن السدود السورية في "قسد". ويفسر ذلك تواجد أنقرة في عفرين (نهر عفرين) غرب الفرات عموماً، إضافةً إلى المنطقة الممتدة من رأس العين إلى تل أبيض، حيث العديد من الأنهار التركية الصغيرة التي تدخل منها إلى سوريا، من دون أن نتجاهل تواجدها في جرابلس، مدخل الفرات إلى سوريا، ومحاولتها السيطرة على عين العرب (كوباني)، وهي على الضفة الشرقية للنهر، وهو الحال في شمال العراق، إذ نجحت تركيا في إقامة العديد من القواعد العسكرية في الجبال الاستراتيجية المطلة أو القريبة من المجاري المائية، ومنها دجلة والزاب الكبير.  ويبقى الرهان أو الأمل في احتمالات العودة إلى علاقات الصداقة بين أنقرة وكل من دمشق وبغداد، وحتى إيران، وهي أيضاً طرف في قضية المياه، وخصوصاً مع العراق، فبعد أن نجحت أنقرة بعد العام 2003 في إقامات علاقات ودية مع سوريا والعراق وإيران وباقي دول المنطقة، أعلن الرئيس إردوغان، وقبله الرئيس عبد الله جول، أكثر من مرة، أنه "لم تعد هناك ما يسمى بمشكلة المياه مع الجارتين المذكورتين، ليعود ما بين النهرين من جديد مهداً للحضارات التي عاشت فيها قبل آلاف السنين"، وهو الكلام الذي أصبح في مهب الريح، كما أصبحت مشاعر الأخوة والصداقة بين أنقرة وكل من بغداد ودمشق في ذاكرة النسيان، بعد أن نجحت سياسات "تصفير المشاكل مع الجيران" في "تصفير الجيران"، وستكون المياه قريباً همها الأصعب!    


 الدكتور مجيد حمه أمين    منذ عقودٍ لا بل قرون يعيش العرب والكرد في فضاءٍ جغرافي واحد، أقاموا حينها علاقات وروابط متينة لم تكن لأبعاد الاختلاف الإثني والمذهبي فيها أي أثر، بل على العكس سادَ التعايشُ السلمي والتلاحم والوئام الذي وصل الى حد المصاهرة والمقاربة وبأجمل صورها، وللأسف الشديد وفي فترات متباينة بعد تأسيس الدولة العراقيَّة الحديثة في العام 1921، تسللت وتسلطت بعض القيادات التي تغالي بالنزعات القوميَّة، التي جعلت منها معياراً «إثنياً» في تصنيف البشر، فكان هناك في نظرهم مواطنون من الدرجة الأولى ومواطنون من الدرجة الثانية، وألحقت هذه النظرة الشوفينيَّة بممارسات ومحاولات تمييزيَّة من أجل تذويب وطمس الهوية القوميَّة الكرديَّة، تعرض خلال فصولها المظلمة شعبنا الكردي الى أبشع صور القمع والإبادة والتهجير. وللأمانة التاريخيَّة نقول إننا لسنا الوحيدين الذين تعرضنا الى هذا الظلم ولكننا قد نكون الأكثر، فقد شاطرنا في هذا النصيب، المكون المجتمعي العربي الشيعي، لذا فهذه التشاركيَّة في المظلوميَّة لا تجعلنا نخشى البوح بالسر في وجود نوعٍ من الود والتعاطف لدى شعب كردستان وأغلب أحزابه وتياراته المجتمعيَّة تجاه شيعة العراق. لقد عانى هذا المكون المجتمعي الأصيل من التمييز بصورٍ شتى تمثلت بحرمانهم وتهميشهم وإقصائهم من لعب دورهم في إدارة الدولة بما يتناسب مع حجمهم الحقيقي في كونهم الأغلبيَّة العدديَّة تارة، وفي كونهم أصحاب الثروات والعقول تارة أخرى، وفي صفحات أشد قسوة مُنِعوا حتى من ممارسة طقوسهم المذهبيَّة. تلك القواسم المشتركة من المظالم والمآسي التي لحقت بهذين المكونين على يد الأنظمة الحاكمة، جعلتهما طرفين متقاربين في الكثير من القضايا ومترابطين بأواصر القرابة السياسيَّة والنضال ضد الديكتاتوريَّة، لذا كانت كُردستان العراق بجبالها ووديانها وقراها، على الدوام، ملجأً حاضناً وملاذاً آمناً لمعظم مناضلي الشيعة وأحزابهم في مراحل تاريخيَّة مختلفة حتى سقوط النظام البائد، قاسمناهم فيها رغيف الخبز وشاطرناهم الخوف والحزن على ما جرى لشعوبنا من أنفال ومقابر جماعيَّة ونحن نسير في دروب المصير الواحد المشترك، سالت وامتزجت فيه دماؤنا وتوحدت أقدارنا وجمعتنا المعتقلات وزنزانات الإعدام في انتظار آجالنا، لم نكن لننسى في يومٍ من الأيام ما أفتى به مراجعهم بحرمة قتالنا وإزهاق أرواحنا عندما كنا نتعرض لأبشع عناوين القهر والاضطهاد، ولم ننس احتضانهم لنا عندما نُفينا وهُجرنا الى مُدنهم وكيف كنا نرى مؤازرتهم ومواساتهم لنا على الرغم من كل بطش وجبروت السلطات الغاشمة حينها. وبناءً على تلك المشتركات والخلفيات السياسيَّة وبعد التغيير الذي حصل عام 2003 وتحرير العراق من بطش الدكتاتوريَّة الصداميَّة، كان طبيعياً أنْ نمضي في التفاهم والتحالف مع ممثلي هذا المكون المجتمعي الأصيل، يحدونا الأمل بأنْ نعيشَ متآخين متحابين متفاهمين في عراقٍ جديدٍ اتحادي فيدرالي تسوده العدالة الاجتماعيَّة وروح المواطنة وسيادة الدستور. كما لم تقصر قيادات الكُرد في أنْ تلعبَ دوراً مسانداً «وأحياناً» وسيطاً في ذلك الوقت لاشاعة روح التآخي بين العراقيين واحتواء خلافاتهم، وربما الاتفاقيات التي رعاها الكرد والتي أبرمت بين الأطراف السياسيَّة لتشكيل الحكومات، دليل على حضور هذا الدور، لا سيما مع المساعي المخلصة التي كان يبذلها الرئيس الراحل مام جلال طالباني بحماسٍ واقتدارٍ لتوحيد البيت العراقي. ومع مرور الوقت وبوجود الكثير من التحديات في بناء الدولة الجديدة والظروف الاستثنائيَّة وما رافقها من حربٍ أهليَّة طاحنة عصفت بالبلاد برزت الخلافات وتعثرت التفاهمات وأجلت الاتفاقيات وكان هذا شيئاً منطقياً ومتوقع الحدوث في نظرنا بحكم الكم الهائل من المشكلات والتركة الثقيلة من التعقيدات التي ورثناها عن النظام السابق، مضافاً إليها محدوديَّة تجربتنا في إدارة الدولة وديمقراطيتنا الفتيَّة الهشة، حتى مع وجود الاختلاف القومي (العربي - الكردي) الذي كان يعتقد البعض أنه ضعفٌ للعراق، كنا ننظر إليه بأنه مبعث قوة له، إنْ استخدمَ بشكله الصحيح، وهي خصوصيَّة لا يمكن التخلي عنها. وكنا نقولها مراراً وتكراراً لشركائنا في الوطن؛ إنّ المشكلة تكمنُ في تحويل الانتماء القومي أو المذهبي الى سببٍ تمحو من خلاله الآخر المختلف.  وكنا نأمل أننا بتعاون شركاء الوطن سوف ننجح في تخطيها، ولكنْ كان هناك شيء مقلق ومنحى خطير ومخيف، فنحن في كردستان لم نكن لنتصور، أنْ تنقلبَ الأمورُ الى هذه الحالة الصعبة، التي تمثلت في ظهور مواقف إقصائيّة من بين ثنايا هذا المكون الأصيل، في السلطة وأجهزة الدولة تكرس جهدها لإقصاء الآخرين.  نعم، إنَّ هناك من يحاول أنْ يسيء الى كل شيء، ويتشبه حتى بثقافة الحكومات الدكتاتوريَّة في وصف الخلافات السياسيَّة بإطلاق شتى النعوت على المختلف، وهو ما يجعلنا ننتظر بفارغ الصبر أنْ يتم التحرك باتجاه الحد من غطرسة هذه النخبة وإصلاح الأمور واحتواء الأزمة، إنها دعوة صادقة وبِنيَّة خالصة في التدخل لحماية تلك العلاقة التاريخيَّة المصيريَّة من أجل ضمان رخاء ورفاهيَّة شعوبنا المظلومة، وهذه الدعوة موجهة الى شخصيات من أمثال سماحة آية الله السيد علي السيستاني حفظه الله، والقوى المؤمنة بالعراق الجديد من السياسيين الشيعة ومن الليبراليين والمثقفين والعقلاء من هذا المكون وكل الذين لا يريدون إعادة التاريخ وتشويه المسار وتاريخ نضالنا المشترك.   * عضو قيادة الاتحاد الوطني الكردستاني


صلاح حسن بابان “ما فائدة وصول اللقاح في الوقت الضائع، الإصابات بالفايروس في انخفاض مستمر، ولا حاجة ضرورية طارئة لتلقيه مع بلوغ مواطني كردستان مرحلة عالية من الوعي في مكافحة كوفيد- 19، واجتيازنا مرحلة الخطر”. هكذا يعبّر ديلان حمه (44 سنة) وهو موظف في أحد المراكز الصحيّة بمحافظة السليمانية، بسخرية سوداء، عن موقفه من وصول لقاح “فايزر” إلى الإقليم في نهاية شهر شباط/ فبراير المقبل، بعدما فتك “كوفيد- 19″، بأرواح والديه، وأحد اصدقائه المقرّبين في الدائرة الصحية حيث يعمل. أظهر انتشار وباء “كورونا” مواطن الخلل والضعف لدى القطاع الصحي في إقليم كردستان وعدم قدرته على مكافحة الجائحة من دون اللجوء إلى إجراءات صارمة مثل حظر التجوال ومنع التنقل الداخلي بين محافظات الإقليم، وتعطيل المؤسسات التعليمية والخدمية، في وقت ينتشر الفساد لينخر في مختلف القطاعات في كردستان من دون استثناء. ولا يحيد واقع القطاع الصحي الكردستاني عن ذلك الموجود في العراق عموماً الذي يحتل المرتبة 176 من أصل 195 دولة، بحسب المؤشر العالمي للأمن الصحي، استناداً إلى لائحة أعدها مركز “جونز هوبكنز”، ونشر للمرة الأولى عام 2019 وتضمن إشارات إلى مشكلات عدة متعلقة بندرة التمويل، وتدني الأولوية المُعطاة للصحة في الميزانية الحكومية، والبنية التحتية المتداعية ونقص الأطباء وطاقم التمريض. وهناك ما يعادل 8.2 طبيب لكل 10000 نسمة في العراق، وفقاً لـ”منظمة الصحة العالمية”، وهو ما يجعله عاجزاً عن مواجهة تفشي الفايروس. شلّ “كوفيد- 19” مع اللحظات الأولى لإنتشاره قبل نحو عام تقريباً دوام المدارس والمعاهد والجامعات والدوائر والمؤسسات الحكومية، لكنها سرعان ما عادت الى عملها شبه الطبيعي تدريجياً بعد فرض حظر تجوال أخذ أسابيع مظلمة اقتصادياً ومادياً من حياة المواطنين، لا سيما الفئات الفقيرة التي تعتمد على دخلها اليومي لتأمين قوتها. وهو أمر يضع الإقليم بين نارين: الانهيار الاقتصادي أو الانهيار الصحي. وكما هي الحال مع معظم بلدان العالم، ينظر إلى اللقاح كمنقذ على هذا الصعيد. لكن الكثير من الأسئلة والاستفسارات باتت تقلق الشارع الكردي، بعد تعاقد العراق مع شركة “فايزر” لشراء اللقاح، كما أعلن وزير الصحة حسن التميمي، مؤكداً توفير 1.5 مليون جرعة منه على أن تكون أولوية توزيعه على الكوادر الصحية والقوات الأمنية وكبار السن والمصابين بالأمراض المزمنة. أكثر الأسئلة التي تسمعها بين الأكراد: هل ستعطي بغداد إربيل حصتها من اللقاح أم أنها ستمتنع عن ذلك؟ وهو سؤال يأتي على خلفية الأزمة السياسية بين الإقليم والحكومة الاتحادية في بغداد، والمتعلقة بملف النفط والمعابر الحدودية وغيرها من الملفات الشائكة العالقة منذ سنين، وقد سبق للعاصمة أن امتنعت عن دفع رواتب كردستان وميزانيتها لرفض الأخيرة الالتزام بالاتفاقات المبرمة بينهما، وهو ما أدى إلى وقوع الإقليم في فوضى تأخر الرواتب ووقوع احتجاجات غاضبة في أجزاء واسعة من الإقليم ضد الفساد وتأخر الرواتب ونظام الادخار الإجباري المفروض على الموظفين. يستغرب المتحدث بإسم وزارة الصحة العراقية سيف البدر إثارة هذا النوع من الأسئلة، فـ”التوزيع سيكون مركزياً على جميع المحافظات وبحسب الكثافة السكانية، وستكون لإقليم كردستان حصة معيّنة من الجرعات بالاستناد إلى عدد سكانه ويستلم حصّته كما يستلم بقيّة الأدوية والمستلزمات الطبية من الوزارة الاتحادية”، مؤكداً لـ"درج" عدم قدرة حكومة الإقليم منفردة، على إجراء أو توقيع أي اتفاق لاستلام لقاح “فايزر” أو غيره لأن هذا الإجراء مرتبط حصراً بالحكومة الاتحادية. يأتي نفي المتحدث حول عدم قدرة حكومة الإقليم على إبرام أي عقد حول اللقاح في وقتٍ عقدت وزارة الصحة في حكومة كردستان أول إجتماع لها مع الشركة المنتجة للقاح “فايزر” في 7 كانون الثاني/ يناير 2021 من أجل تأمينه في الإقليم إضافةً إلى اجتماعين موسعين مع شركة AstraZeneca، لتأمين لقاحها أيضاً. يؤكد وزير الصحة في حكومة كردستان سامان برزنجي خوض وزارته نقاشات مكثفة مع شركتي “فايزر”، و”أسترازينيكا” من أجل شراء لقاح فايروس كورونا، في الوقت الذي خصصت فيه حكومة الاقليم ميزانية مالية لشراء اللقاح بهدف البدء ببرنامج التطعيم ضد الوباء. برزنجي يقول إن المسؤولين الصحيين العراقيين “أبلغونا بأن اللقاحات ستصل الى البلاد في نهاية شهر شباط المقبل وستكون حصة الاقليم من هذه اللقاحات مضمونة”. وفتح الإقليم، بحسب وزير صحته، قنوات للتباحاث مع الشركات المنتجة للقاح، وتحدث مع قنصليات بلدانها من أجل تأمين كمية أكبر من الجرعات، مشيراً إلى أن حكومة كردستان أبدت استعدادها مسبقاً لتأمين ميزانية مالية لشراء اللقاح للمواطنين. لا يقتنع المواطنون في الإقليم بوعود الصحة العراقية وصدقيتها بإرسال حصتهم من اللقاح، يقول هورامان خالد (35 سنة) وهو يدفع عربته لبيع “الشلغ” أمام قلعة أربيل الشهيرة: سيتكرر مشهد إمتناع بغداد عن إرسال اللقاح لكردستان كما حصل مع الرواتب والميزانية الشهرية، تعوّدنا منذ سنوات أن نكون الحطب لنار الصراعات بين السلطتين الكردية والعراقية”. وإذا كان هورامان لا يثق بالحكومة الاتحادية، فإن كثيرين غيره لا يثقون باللقاح نفسه، بسبب عوامل نفسية وثقافية وإعلامية، إذ يرفض كثيرون في كردستان تلقي اللقاح بسبب نظريات المؤامرة وما يشاع من أخبار ملفقة حول “آثار جانبية خطيرة”، وهو ما يرجعه المتخصص في الأمراض النفسية د. محمد خورشيد في حديثه لـ"درج" إلى عدم قيام وسائل الإعلام بالتوعية الكافية والصحيحة والعلمية لتشجيع المواطنين على ضرورة تلقي اللقاح وعدم الخوف منه كما يُشاع، إضافةً الى تقصير الدوائر المعنية في وزارة الصحة في التسويق لأهمية اللقاح وتشجيع المواطنين على تلقّيه وتقديم الدعم النفسي لهم.


 عبد الرحمن الراشد  باب الاحتمالات مفتوح خلال الأشهر المقبلة حتى نهاية العام، ومن يعتقد أن الأمور محسومة في أي اتجاه يكون مخطئاً. البدايات ستكون صعبة؛ اشتباكات وحروباً صغيرة حتى. مع هذا، التفاؤل يقول إن سنوات بايدن ستدفع الأمور نحو الحل الإقليمي للعديد من القضايا، لأنها في أساسها مترابطة وبعضها نتاج بعض. وهذا لا يلغي المخاوف من أن تخرج الأحداث عن السيطرة ونشهد أسوأ من كل ما رأيناه. ولأننا في بداية الرحلة مع الإدارة الجديدة، فالأفضل أن نكتشف الاحتمالات الإيجابية ليس من قبيل التفاؤل فقط، بل لأنها واقعية. في رأيي، بايدن أقدر على صنع السلام في المنطقة، لماذا؟ لا أعني بالسلام فقط الصراع العربي الفلسطيني الإسرائيلي، الأمر الذي سنتركه لمقال آخر، بل السلام في الصراع الأخطر، إيران. في عهد دونالد ترمب كان هناك مشروع واحد؛ معاقبة إيران. وقد نجح في ذلك، وما قاله الرئيس الإيراني حسن روحاني قبل أيام يعبّر بصدق: «ثلاث سنوات مضت لم أهنأ فيها بالنوم بسبب ترمب»! نجح ترمب في قضّ مضاجع النظام بشكل لم يسبق له مثيل، وصنع واقعاً جديداً سيساعد بايدن على تحقيق صفقة معقولة إن سار على نفس الدرب. لقد استردّ ترمب كل ما وهبه الرئيس الأسبق باراك أوباما للإيرانيين، من مزايا سياسية ومالية. ترمب دفعهم للإفلاس وحاصرهم، وتقريباً هزمهم. لكن، لا بد أن نقول إن النظام لا يزال، رغم ما أصابه، حيواناً جريحاً محاصَراً وقادراً على الإيذاء. يمكن لبايدن أن يبني على إنجازات ترمب ويطرح إنهاء المواجهة والحروب مع إيران، بتعديل الاتفاق الشامل (JCPOA)، أي النووي، بحيث يشمل المنطقة ويمنع التمدد الإيراني خارج الحدود، ويمنع التسلح النووي. الخطورة أن إيران تتصور أن بايدن ضعيف، وإدارته الديمقراطية لا تملك شهية للتحدي والمواجهة، وهذا سيدفع طهران لئلا تتنازل. هنا التصور أخطر من الحقيقة، أياً كانت الحقيقة. وما لم تُظهر إدارة واشنطن أنيابها فإنها ستفشل في إدارة الحوار مع إيران، باستثناء التراجع والقبول بالاتفاق القديم الذي سيشعل المنطقة حروباً وسيفشل. رغم مظهره المتماسك، فإن نظام خامنئي في وضع مزرٍ، ولا يحتمل استمرار العقوبات لسنوات مقبلة. واعتداءاتُه الأخيرة على السعودية والعراق وتزايد نشاطه في أفغانستان، وتجديد محاولات التهريب النفطي في البحار، كلها مظاهر استعراضية للقوة في مواجهة إدارة بايدن التي ترسم خطواتها المقبلة. لهذا، نجاح بايدن يقوم على استثمار نتائج سياسة ترمب وتهديد النظام بأنه قادر على الاستمرار في خنقه. وفي حال استمرت الإدارة في المحافظة على تطبيق العقوبات فإن الإيرانيين سيأتون إلى الطاولة مستعدين أكثر لحل معقول. فالتنازل لبايدن أهون على خامنئي من الانحناء لترمب، ولن ينحني من دون الضغوط الشديدة، حينها ستكون إيران مستعدة لحل سياسي يكمل مشروع الاتفاق النووي الذي فشل أوباما في تحقيقه. وهذا بدوره سيقود إلى حلول متعددة في اليمن والعراق وسوريا ولبنان، وحتى إسرائيل في نهاية المطاف. المفتاح يكمن في الاستفادة من العقوبات وليس التخلي عنها.   الشرق الاوسط


د. اراس حسين دارتاش . بصورة عامة... كنا نلاحظ،  ومنذ انتهاء الحرب العالمية الثانية ولغاية منتصف العقد الثاني من القرن الحالي، نوعا من الاستقرار الاجتماعي وحتى السياسي في معظم (( المجتمعات الغربية) التي نعتت إعلاميا وفي القاموس السياسي بـ(المجتمعات الديمقراطية)، حيث كانت تحكم من قبل الانظمة (افترضت) بانها ديمقراطية. نحن هنا لسنا بصدد تقييم تجربة تلك الانظمة الغربية بانها كانت ديمقراطية كاملةً ام نصف او ربع ديمقراطيةً، فلنترك هذا  للباحثين المختصين بهذا الشاًن. لكن.... تبدو ان ظروف تلك المجتمعات في (الديمقراطيات الغربية) اصبحت تشكل مصدرا لاًلهام المجتمعات الاخرى التي كانت تعيش في طل (الانطمة الاشتراكية) السابقة التي انهارت معظمها في بداية التسعينات من القرن الماضي تحت تاًثير (ايجابيات) المجتمعات الغربية تجاه (سلبيات) المجتمعات الاشتراكية. وكما اصبحت....ظروف المجتمعات الغربية، أيضاً، تشكل مصدراً لاًلهام معظم الشعوب الاخرى التي تعيش، في معظمها، في دول النصف الجنوبي للعالم في ظل الانظمة السياسية التي توصف بانها، كامل او نصف او ربع دكتاتورية ، والتي يفتقد فيها (الاًمن الاجتماعي والسياسي والاقتصادي) بصورة او اخرى، حيث اصبحت تلك المجتمعات الغربية محط أنظار الشعوب المتواجدة تحت ظل الانظمة السياسة التي تفتقد فيها (العدالة الاجتماعية و السياسية والاقتصادية) بقسط او اخر. على اي حال..... نحن هنا أيضاً، لسنا بصدد تقييم (الحالة المجتمعية و مستوى الديمقراطية) في هذه الانظمة الغربية ، بل ما يهمنا هو، بقدر ما يحصل فيها الان من الانقسامات الاجتماعية والسياسية والتردي الحاصل  في (الحالة  الديمقراطية)  فيها، التي تظهر في عدد من اعرق الديمقراطيات الغربية بدرجة او اخرى. حيث نلاحظ .... منذ النصف الثاني من العقد الحالي، هذا التردي في عدد من تلك الديمقراطيات خيب امال الشعوب المتواجدة  تحت ظل الانظمة السياسية التى تفتقر الى العدالة بأنواعها. وعلى سبيل الاستذكار لا الحصر ..... نحن لا ريد هنا ان نورد ما حصل من الانقسام في المجتمع الفرنسي بين التيار اليميني  والتيار الليبرالي في الانتخابات الاخيرة التي فاز فيها السيد ماكرون ومن ثم ما رافقها من تظاهرات عنيفة ومستمرة لحد الان، ولانورد ما حصل من الانقسامات قي المجتمع البريطاني ومووًسساته السياسية حول الخروج من منظومة الاتحاد الأوربي ولحد الان، ولا نورد هنا أيضاً التشتت و التفكك الحاصل في اتجاهات الدول الأوربية تجاه القضايا و الصراعات الدولية و الإقليمية التي تمسها، ولانورد هنا التلكؤ الحاصل في عمل و تمويل المنظمات  الدولية المتنوعة التي تشرف عليها الدول الغربية بدرجة كبيرة ، هذا ناهيك عن حدوث  الإرباك و العجز في عمل حلف الشمال الأطلسي تجاه الصراعات الدولية التي تمس مصالح الديمقراطيات الغربية . ما يهمنا هنا هو  ..... ما يحصل الان من  (انقسام أفقي ) داخل المجتمع الامريكي و ( انقسام عمودي ) داخل المووًسسات السياسية فيها المتمثلة بالحكومة و مجلسي النواب و الشيوخ و القضاء خلال  ( انتخابات ٢٠٢٠ ) ، و ما  رافقها من ادعاءات من قبل الرىًيس ترامب  ، حول قيام الحزب الديمقراطي و الأجهزة الانتخابية العائدة  له بعمليات التزوير لصالح ترشيح بايدن ، و قد اتهم ترامب مراراً حكام الولايات و محاكمها ، حتى الجمهورية منها ، بالنفاق و عدم النزاهة و التزوير  ......الخ من احداث غير  دستورية التي رافقت هذه العملية الانتخابية و التي هي معروفة للجميع باتجاه هدم العملية و المووًسسات الدستورية . على اي حال ....ان الرىًيس ترامب ، من دون عادة لبقية  الرووًساء ، استغل هذا الانقسام الحكومي و النيابي و القضاىًي بشاًن مصداقية نتاىًج انتخابات ٢٠٢٠ ، و اهم من هذا و ذاك  استغل الانقسام المجتمعي داخل المجتمع الامريكي ، من خلال الأصوات الموًيدة له و البالغة بحدود ( ٧٥ ) مليون صوت الذي يضم معظم ( التيار اليميني ) ، الامر الذي دفع به ان يدعو مناصره في يوم ( ٦يناير ) الحالي و من خلال خطاب مثير  لعواطف ، ان يقومو باقتحام مبنى مجلس النواب  خلال اجتماعه لمنع عملية تصديق نتاىًج الانتخابات لصالح الرىًيس المنتخب بايدن . خلاصة القول ...... أولاً - ان يوم ( ٢٠٢٠/١/٦ ) يعتبر مفارقة  تاريخية في مسيرة الديمقراطية الغربية لتنحدر نحو الهاوية تدريجيا و ان استمر الحال هكذا ، ان يطلب رىًيس اكبر دولة ديمقراطية في العالم من مواطنيه  ، كما يشاع ، باقتحام مبنى البرلمان الذي صادق عليه ديمقراطياً لكي يصبح رىًيساً لتلك الدولة ، الامر الذي جعل من ذلك البرلمان ان يعمل على اتخاذ اجراءات قانونية او ( ناقصة القانونية )  لعزله من الرىًاسة مرة اخرى . ثانياً- ان هذا التشنج و الانقسام المجتمعي و السياسي واصل الى مستوى مرعب و خطير  داخل النظام الامريكي ، بحيث ان (مكتب التحقيقات الفدرالي) قد حذر  من قيام جماعات يمينية متطرفة باحتجاجات ( مسلحة ) في العاصمة واشنطن في يوم تنصيب الرىًيس المنتخب بايدن رسمياً لاستلام مهام الرىًاسة في ٢٠ يناير الحالي، و ان الجيش لأمريكي ، و لأول مرة في تاريخ هذه الدولة ، يدفع بقواته الى واشنطن و (٥٠) مدينة بعواصم الولايات قبل مناسبة التنصيب ، و يوًدي  كل جندي في هذه الوحدات  ((القسم )) لحماية الدستور توخياً لحصول اي انقلاب عسكري داخل النظام الذي يفترض ان يكون ديمقراطياً . ثالثاً - و كذلك لأول مرة يحصل ان جميع القوات المسلحة الامريكية ( الشرطية و العسكرية )  تدخل في حالة التاًهب و الطوارىً لتاًمين هذه المناسبة و الممارسة الديمقراطية كأنها تستعد  لصد عدواناً عسكرياً متوقعاً . ثالثاً - و اغرب من هذا ، يبدو ان الامر خطير الى درجة ، فان واشنطن لم تكتفي بقوات الجيش و الشرطة العلنية و السرية لحماية المناسبة ، بل استدعت ( الحرس الوطني ) من ولايات أمريكية متفرقة لنشر  ( ٢٠ ألفاً ) من قواته في العاصمة واشنطن لنفس الغرض ، والمعروف  تاريخيا فان قوات الحرس الوطني كانت عبارة عن قوات ( ميليشياوية ) للولايات اضطر الكونكرس خلال عقود من الازمنة ان يوًطرها بإطار  من القوانين المتتالية لأجل كبح جماحها و انفلاتها بسبب حملها للسلاح ، و يفترض ان يكون عملها لمواجهة الاًزمات و الكوارث و التعامل مع الحشود المتظاهرين . باعتبارها قوة احتياطية موازية للجيش الامريكي . ختاماً......اذا كان حال من يقود الديمقراطية العالمية بهذه الصورة الماًساوية ، فكيف سيكون مصير الشعوب الاخرى المتطلعة نحو الديمقراطية و التخلص من استبداد انظمتها . و خير مثل يمكن من خلاله ان نفسر حالة الديقراطيةِ الامريكية الحالية هو : (( اذا كان رب البيت بالطبل ضارباً......فما شيمة أهل البيت سوى الرقص و الطرب ))... القصد هو : ((اذا كان رب الديمقراطية بالتزوير متهما ..... .. فما شيمة الشعوب المقهورة سوى  اللطم و البكاء)) ...      


كفاح محمود منذ أيّام تعرض وسائل التواصل شيئاً من إنتاج واحدة من الميليشيات التي تستخدم الكاتيوشا في التعبير عن رأيها، وهذا الشيء الذي أطلقوا عليه "فلماً قصيراً" بدا ناقصاً في فكره وأخلاقياته وتقنياته وتمثيله، ولم يتجاوز وظيفته الدعائية الساذجة، حيث عبر عن نمط تفكير ومستوى وثقافة الجهة التي أنتجته، والمتطابق تماماً مع سلوكها في التعبير عن الرأي وتشويه الحقائق.   ويبدو أن العمل الدعائي هذا جاء كمحاولة لترجمة تمثيلية زعيم حزب اللّه في حديثه عن البارزاني أبان هجوم "داعش" على مخمور، والتي صرح بها قبل فترة مدعياً أن سليماني زار الرئيس بارزاني، مُبدياً استعداد بلاده للمساعدة، علماً أن سليماني هاتف الرئيس ولم يزره، وقد ذكر ذلك الرئيس بارزاني في أكثر من مناسبة وأمام الرأي العام، والفلم الناقص الأخير نجح حقيقةً في تحويل تصريحات نصر اللّه وادعاءاته التمثيلية إلى فلم قصير بائس لا ينقصه إلا الصدق والأخلاق.   ما يُستشف من هذه اللعبة هو إسقاطات سايكولوجية تُعاني منها هذه الجهات ليس مع البارزاني شخصياً فقط، بل مع البيشمركة كقوة أثبتت جدارتها عالمياً وتحولت من قوات لحماية الإقليم إلى رمز عالمي لمكافحة الإرهاب وتدميره، هذا الإسقاط هو مجموعات مركبات نقص متراكمة تاريخياً تُعاني منها كثير من القوى السياسية، التي تعاملت مع القضية الكوردية وخاصةً في السنوات الأخيرة سواء في العراق أو ايران أو بقية دول الجوار، التي فشلت في أن تقدم نموذجاً إنسانياً مزدهراً لشعبها، أساسه قبول الآخر والتعايش السلمي الذي تميز به إقليم كوردستان منذ استقلاله الذاتي في 1992 وقيام مؤسساته الدستورية.   حرب "داعش" التي استهدفت كوردستان وتجربتها وكيانها كانت حرباً أيديولوجية عنصرية بالمطلق، وإقليمية تناغمت فيها الأهداف والوسائل وإن ظهرت إيهاماً بعض الاختلافات هنا وهناك؛ ومصيرية لكوردستان وكيانها، وقد أكّدت الشواهد ونتائج ما حصل على أن "داعش" ليست مجرد منظمة دينية عقائدية غرضها بسط نفود الدين وشريعته بمنظار قادتها، بل مشروعاً تدميرياً هدفه كل المكّونات العرقية والقومية والدينية المختلفة مع نهجه وفي مقدمة ذلك إقليم كوردستان وشعبه، حيث أدرك الرئيس مسعود بارزاني مدى خطورة هذه الهجمة، فلم يجلس في مكتبه ليدير حركات قواته ودفاعاتها، بل اندفع إلى الخطوط الأولى للقتال ولم يكن لوحده، بل أخذ معه كل من يستطيع حمل السلاح من أولاده وإخوته وأبنائهم، موزعاً إيّاهم على جميع خطوط المواجهة مع غزوات داعش، حيث شعر المقاتل ربما لأوّل مرّة في تاريخ الحروب أن القائد العام وأبنائه وإخوته يقاتلون جنباً الى جنب مع الجنود حالهم حال أي جندي في السلاح والذخيرة والمأكل والمشرب، حتى كتب اللّه لهم جميعاً النصر وحمى كوردستان وأرضها وشعبها من تلك الهجمة الهمجية المتوحشة.   لم يكن تنظيم الدولة الإسلامية حكراً كما يدعي لمذهبٍ بعينه، بل أنه نجح في جمع كل المذاهب تحت خيمة عنصرية متوحشة، مفعمة بالغرائز والأحلام المريضة، مستغلاً الخلافات ومندساً بين كل الأطراف، وليس عجيباً ما أظهرته وسائل الإعلام ومعلومات أميركية مهمة عن تعاون وثيق بين جهات إيرانية وتركية وسورية وعراقية مع هذا التنظيم، الذي استُقبِلَ بالورود في كثير من المدن والبلدات من قبل أولئك الذين تلوثت أياديهم وجيوبهم بدماء الكوردستانيين وأموالهم في الأنفال وعمليات النّهب والسّلب التي رافقت كل حروب أنظمة العراق ضد كوردستان، حقاً كان فلماً ناقصاً بكل الاعتبارات أمام حقيقة ناصعة غدت رمزاً عالمياً في الحروب ومكافحة أعتى قوةً في الإرهاب عبر التاريخ، تلك هي بطولة البيشمركة وقائدها ولوحة النصر العظيم الذي رسمته دماء 1755 شهيداً و10 آلاف جريح من البيشمركة، حمّت فيها إقليم كوردستان وكسرت أسطورة "داعش" الإرهابية.


صلاح حسن بابان بمشاهد وصفها كثر من الأكراد بـ"الصادمة"، نشرت شركة إنتاج تابعة للحرس الثوري الإيراني فيلماً (تمثيلياً مستنداً إلى أحداث حقيقية) من 9 دقائق حمل عنوان "توكّل"، يتحدث عن نجدة قائد فيلق القدس قاسم سليماني، رئيس إقليم كردستان السابق وزعيم "الحزب الديموقراطي الكردستاني" الحالي، مسعود بارزاني، الذي يظهر في الفيلم خائفاً ومضطرباً ومتوتراً ومهجوراً من حلفائه الغربيين، وتحديداً الأميركيين والفرنسيين وكذلك الأتراك، حينما يبلغه مساعدوه بتقدم "داعش" صوب أربيل، في محاولةٍ لإخضاعها قبل الزحف نحو بقية المناطق الكردية في شهر آب/ أغسطس 2014.   أشعل الفيلم الإيراني النّار في روح قيادات "الحزب الديموقراطي الكردستاني" ومناصريه، فسيروان بارزاني وهو شقيق رئيس الإقليم الحالي نيجيرفان بارزاني وابن أخ مسعود بارزاني، وكان مسؤولاً عن منطقة "كوير" المحاذية لأربيل، والتي شكلت نقطة تهديد ضدها بعد سيطرة "داعش" عليها آنذاك، رأى أن الفيلم "يستهدف القيادة الكردية عموماً، ومسعود بارزاني تحديداً".    يتناول الفيلم في مجرياته، تلك الأيّام التي اقترب فيها التنظيم من مدينة أربيل عاصمة الإقليم الكردي، في محاولةٍ منه لاحتلالها بعد فرض سيطرته على منطقة "كوير" التابعة لمحافظة نينوى المحاذية، والتي شكلت نقطة تهديد حرجة لعاصمة الكرد. وكان وقتها ابن أخ بارزاني سيروان مسؤول محور المنطقة المذكورة. وروى الفيلم وكيف خُذل مسعود بارزاني من الذين اعتقد بأنّهم أصدقاء الكرد الأوفياء من الأميركيين والفرنسيين والأتراك وغيرهم، ما دفعه في النهاية مضطراً بعد نوبة إحباط طويلة للاتصال بقائد فيلق القدس الإيراني قاسم سليماني وطلب المساعدة منه لإنقاد أربيل من الوقوع بقبضة "داعش"، ليطمئنه سليماني هاتفياً: "اصمد لليلة واحدة، وسأصلك غداً". وبعدها تظهر طائرة صغيرة في نهاية الفيلم يخرجُ منها الجنرال الإيراني وبجانبه أبو مهدي المهندس نائب رئيس "هيئة الحشد الشعبي العراقي"، تُرافقهما مجموعة من القيادات والعناصر القتالية بأسلحتهم الخفيفة، يحصرها الفيلم بنحو 70 مقاتلاً، ويستقبلهم بارزاني بحفاوة في أربيل.      من العلامات الصادمة التي يظهرها الفيلم، هي تناوله لبارزاني على أنه شخصية ضعيفة، ففي العرض- أي الفيلم- تظهر عليه ملامح الإحباط والانكسار بعدما بقي وحيداً أمام تقدّم التنظيم نحو عاصمته، من دون أي سندٍ أو قوّة، على عكس ما كان يتصوّر ويعتقد حزبه وجماهيره، وتظهره ماكناته الإعلامية.   القيادي في حزب بارزاني علي عوني يقول: "الفيلم وأحداثه عبارة عن تصوّرات وروايات في مخيلة الفرس على غرار الأساطير القديمة ورواية أحادية لا يدعمها الشهود، ولم تكن أربيل محاصرة من داعش مثلما يروج له الإيرانيون". ويضيف: "ساندتنا طائرات قوات التحالف، وأمدنا الإيرانيون بأعتدة عسكرية بينها قنابل هاون، إلا أنها كانت منتهية الصلاحية ولم نستفد منها في وقتها". ويقول أيضاً إن "مسعود بارزاني شكر الإيرانيين والتحالف لمساعدتنا في حرب داعش لكن هذا لا يعني أن نُتهم بدعم داعش كما جاء في الفيلم، في وقت كنا ضحية كبيرة للتنظيم وقدمنا أكثر من ألفي شهيد وآلاف الجرحى الذين يعانون حتى الآن من الإعاقة"، متهماً من سماهم بـ"المهزومين والهاربين" بخلق القصص لسدّ "عقدهم الشخصية".     وبشأن تأثير الفيلم في علاقات إقليم كردستان وطهران، يرى عوني أن "جميع الكردستانيين مستاؤون من سياسات إيران التي تتهكم على المسؤولين الأكراد وخصوصاً مسعود بارزاني الذي نعتبره مرجعاً كبيراً للكرد ليس في كردستان العراق فقط بل في جميع دول المنطقة". موجهاً سؤالاً للإيرانيين: "لماذا أنتم صامتون تجاه هجمات إسرائيل في سوريا ضدكم لكنكم تتنمرون على جيرانكم؟".   بعد عرض الفيلم، لم يمتلك "الحزب الديموقراطي الكردستاني" أي خيار سوى دفع ابن شقيق بارزاني سيروان مسؤول محور "كوير" في قوات البيشمركة للظهور بلقاءٍ خاصٍ على فضائية "روداو" الكردية المقرّبة من شقيقه رئيس الإقليم الحالي نيجيرفان، ليتحدث عن "بطولات" قواته في تلك المرحلة، إلا أنّه أغضب جماهير الاتحاد الوطني الكردستاني بتقليله من الدور القتالي لقوات مكافحة الإرهاب التابعة له، والتي كان مسوؤلاً عنها آنذاك لاهور شيخ جنكي، الرئيس المشترك الحالي للحزب. وتظهر مقاطع فيديو صوّرها مقاتلون في مكافحة الإرهاب الكردية كيف دخلوا قضاء مخمور وفرضوا سيطرتهم على أبرز محورٍ فيه وهو "سايلو مخمور"، ليظهر مقاتلٌ فيه بمقطع فيديو يدعى بيشتوان (قتل لاحقاً في عملية ضدّ داعش) وهو يشيرُ إلى وقت ما بعد الظهيرة من خلال ساعته بالقول: "الآن نحنُ في سايلو مخمور، حررنا القضاء من داعش بعد هروب قوات مسعود بارزاني".   في ردّها على سيروان بارزاني، اكتفت "قوات لاهور شيخ جنكي" بنشر مقطع فيديو على صفحتها على "فايسبوك"، تظهر لقطات فيديو تؤكد لحظات اقتحامها القضاء القريب من أربيل وتحريره بالكامل، من دون أن يكون هناك أيّ حضور لبيشمركة بارزاني.    في الوقت نفسه، لم ينف زعيم "الحزب الديموقراطي الكردستاني" مسعود بارزاني في مقابلاتٍ تلفزيونية مدّ إيران يد العون للإقليم أثناء التّصدّي لـ"داعش"، إلا أنه في الوقت ذاته ينفي ما يتم تداوله من مبالغات حول المكالمة الهاتفية التي دارت بينه وبين سليماني في حينها. دائرة شؤون العلاقات الخارجية في حكومة كردستان قدّمت مذكرة احتجاج سلّمتها للقنصلية الإيرانية العامة في أربيل، احتجاجاً على الفيلم المعروض، مُبلغةً إياها بعدم رضاها على تشويه الحقائق. وأكدت أنّ هذا الأمر لا يصبّ في مصلحة تعزير العلاقات المشتركة بين الطرفين. كما أوضح القنصل العام الإيراني في اربيل نصرالله راشنودي في مقابلة تلفزيونية، أن "قاسم سليماني كان يحترم قادة إقليم كردستان، وتمتلك إيران علاقات تاريخية مع القادة الكرد وبارزاني يعرف موقفنا بأننا ضد مثل هذه الأفلام". وتابع، "هناك أطراف يريدون تخريب علاقاتنا والتحقيق جار بشأن إنتاج هذا الفيلم".   ممثل حكومة إقليم كردستان في طهران ناظم الدباغ رفع مذكرة احتجاج إلى الحكومة الإيرانية عبر القنصلية، فجاء الرد الرسمي بأن إيران لا تتبنى هذا الفيلم وتدين ما جاء فيه، كما أكد دبّاغ لـ"درج". يرى الدباغ أن إظهار الفيلم وعرضه بهذا الوقت مع ما يحمله من مضمون ورسائل، ليس إلا محاولة لإضعاف الإرادة الكردية وكسرها، أكثر مما هو استهداف لشخصية بارزاني نفسه، "لأن العالم يشهد على تضحيات قوات البيشمركة التي ساهمت بتحرير مناطق عدة من داعش". ولا يجد أي مبرّر لعرض الفيلم في هذا الوقت. لكنه يعود ويؤكد أن فيلماً كهذا لا يمكنه أن يؤثر في العلاقات بين الشعبين الإيراني والكردي.  


 عبد الرحمن الراشد   كوبا، فنزويلا، الناتو، أوروبا، تركيا، روسيا، تايوان، الصين تجارياً وفي بحر الصين أيضاً، إضافة إلى اتفاقية باريس للمناخ، واتفاق «نافتا» بين دول أميركا الشمالية، وغيرها، جميعها على طاولة الرئيس الأميركي، والعودة لمنظمة الصحة العالمية، ومواجهة خطر جائحة «كورونا» داخل الولايات المتحدة، التي مات فيها أكثر من 400 ألف مصاب بها. وكذلك مطلوب منه مداواة جروح البلاد على مستوى البطالة والتصدعات الاجتماعية السياسية نتيجة تنازع الانتخابات. كلها قضايا مهمة تواجه الرئيس الأميركي الجديد. وهناك الاتفاق الشامل مع إيران، المعروف بـ«الاتفاق النووي»، قنبلة، مشتعل فتيلها، وقد سارعت إدارة الرئيس جو بايدن إلى التعامل معها. والاتفاق، أو الخلاف، مع إيران بشأنها، سيدفع الأمور باتجاهات حاسمة في العراق وسوريا ولبنان واليمن وفلسطين. كلها مناطق صارت رهينة في يد طهران، تستطيع إشعالها من أجل المساومة عليها، من خلال وكلائها من التنظيمات المسلحة المحلية. هل الرئيس بايدن سيقف بالصلابة نفسها التي وقف بها سلفه الرئيس دونالد ترمب في وجه النظام الإيراني؟ من الواضح أنَّ طهران بدأت تمتحنه فقط بعد أسبوعين من دخوله البيت الأبيض بهجماتها على السفارة الأميركية في بغداد وفي السعودية، أيضاً. وستكرر إيران استفزازاتها له، ولدول المنطقة، لتعرف حدود الصبر وردود الفعل. بخلاف ما كان يظنُّه أصدقاء إيران في واشنطن، الذين كانوا يندّدون بسياسة ترمب آنذاك، فإنَّ النظام في طهران لم يستقبل بايدن بالورود محتفياً بعودة الديمقراطيين، بل باشر بإحراجهم، ليقول إن بايدن ليس قادراً، أو ليس راغباً في المواجهة، وبالتالي يضع الآن قواعد اللعبة للمرحلة الجديدة. بيان وزارة الخارجية الأميركية الذي ندَّد باستهداف الرياض، بصاروخ أو ربما كان درونز، وتم تفجيره مبكراً، كان ردة فعل سريعة مهمة ضد إيران، تلاها تحريك القوات الأميركية في المنطقة لتعزيز الحضور العسكري الأميركي. وكان القرار السلبي هو تأجيل قرار تطبيق العقوبات على الحوثي شهراً، مع هذا يمكن أن نتفهمَه، حيث تريد الإدارة الجديدة إعطاء الحوثيين فرصة أخيرة للحل السياسي. ولا يمكن لوم بايدن على تجربة الشهر، فالرئيس ترمب، نفسه، لم يقرر معاقبة الحوثيين إلا وهو على باب الخروج من الرئاسة. سيبقى الموضوع الأكثر إحراجاً هو: ماذا ستعمل إدارة بايدن في وجه عدوانية نظام إيران؟ هل ستقدم تنازلات مثل رفع العقوبات الاقتصادية؟ وهو الذي يهم المرشد خامنئي، الذي عبّر مسؤولو بلاده بصراحة، أنهم لا يريدون مراجعة الاتفاق، ولا تعديله؟ إنْ تراجعت واشنطن عن عقوباتها فلن يبقى حينها في يد بايدن ما يساوم عليه لتعديل الاتفاق، كما وعد. التصريحات الصادرة عن إدارة بايدن تتعهد بتعديل الاتفاق بما يُرضي الحلفاء، وطهران تقول إنها لن ترضى بتعديله، فكيف سيملي تصوره الجديد من دون أن يستخدم القوة أو العقوبات الاقتصادية؟ والأوضاع ستزداد توتراً حتى لو لم يفعل شيئاً، لأنَّ بايدن سيعزز الصورة المتداولة عنه في هذه المنطقة، أنه رئيس ضعيف، الذي بدوره سيطلق سلسلة من الأحداث السلبية التي قد لا يمكن السيطرة عليها فيما بعد.


 حاجي رێكاني عنوان المقال أعلاه،هي احدى العبارات التي ذكرها جو بايدن في خطابه المقتضب الذي جاء أول أمس اثناء حفل تنصيبه رئيساً للولايات المتحدة ألامريكية ليحتل بذلك المرتبة السادسة وألاربعين من سلسلة مراتب الرؤساء الذين تناوبوا قبله في حكم البلاد بفتراتٍ ومراحل تاريخية متفاوتة،منذ إقرار الدستورألامريكي عام 1789م وحتى الان.وجاء حفل التنصيب هذا كحدثِ تأريخي متميز،في أجواءٍ خاصة في ظل إنتشار فايروس كورونا،وإجراءات أمنية دقيقة ومشدّدة ،عقب إقتحام مبنى الكونكرس يوم إنعقاد مجلسي النواب والشيوخ سويةً في السادس من شهر /ك2الجاري كإجراءٍ روتيني مالوف للتصديق على نتائج المجاميع ألانتخابية لجميع الولايات الامريكية الخمسين.  لا يختلفُ إثنين على أن الرئيس جو بايدن السياسي المخضرم،قد ورث من سلفه ترامب المشاكس،على صعيدي الداخلي والخارجي مشاكل جمّة.وقد عبرت مجلة"تايم time" ألامريكية عبر رسمٍ إفتراضي نشرتها من على غلافها الخارجي،يظهر فيها الرئيس بايدن في المكتب البيضاوي فيما تحيط به فوضى عارمة،متمثلة بأكوامٍ من ملفات مكدسة واوراق متناثرة على أرضية المكتب. لهذا ما أن دخل مكتبهُ الرئاسي بعد ألانتهاء من حفل التنصيب،حتى إستهلّ مسرِعاً بإصدار حُزمةً من القرارات الرئاسية المهمة،لاغياً بذلك بعضاً من أوامر وقرارات الرئيس ترامب الذي سبقَ وأن اتخذها خلال فتراتٍ متفاوتة من ولايتهِ المثيرة للجدل. فعلى الصعيد الداخلي مثلاً،ركّزَ بايدن على ضرورة ألاسراع في معالجة مرضى المصابين بفايروس كورونا والتصدّي للوباء المتفشي،وتحسين الظروف الصحية والعودة بأمريكا كعضوة أساسية في منظمة الصحة العالمية،وتحفيز خطة اقتصادية بقيمة 1.9ترليون دولار،بألاضافة الى تصحيح وتقويم قانون الهجرة واللجوء بأعتباره مورداً بشرياً حيوياً مهماً لأمريكا. أما على الصعيد الخارجي،فهنا يتوجّهُ أنظارُ المراقبين والعالم أجمع على بايدن والشخوص الذين اختارهم ليُعينوهُ في السنوات ألاربعة القادمة،فهناكَ دولاً تستبشرُخيراً برؤاه وسياساته التي سبق وأنْ أعلنَ عن بعضها خلال حملته ألانتخابية،ودولاً اخرى يرون بايدن كفرعونٍ يتأبّطُ شرّاً لهمْ.وبين هذه وتلك،هناك دولاً يشوبها القلق لذلك نراهم ينطرونَ قادمَ الايامِ بحذرٍوترقبْ. فمثلاً،كلاً من بريطانيا وفرنسا والمانيا وكندا واليابان والهند،حلفاء أمريكا الكبار،مسرورون بعودة أمريكا في ريادة العالم،وقد سبق وأن عبّرت هذه الدول عن إرتياحها بفوز بايدن وتدشين عهدٍ جديد من السياسةالرصينة التي خَبِروها من رؤساء ديموقراطيين سابقين كالرئيس اوباما. كذلك الدول الخليجية،لا سيما السعودية التي(حَلَبَها)ترامب منها المليارات، تنفّسَتْ الصعداء بفوزبايدن وتسلّمهِ مقاليد الحكم.أما روسيا والصين وكوريا الشمالية وكوبا وفنزويلا،بالأضافة الى إيران الحالمة بدخول النادي النووي،فيبدو عليها القلق والحذر في نفس الوقت،كون كل دولةٍ منها تنظرُ الى بايدن من زاويةٍ مصالح ومواقف خاصة بها،كأردوغان الأخواني مثلاً،الذي سمّاهُ بايدن بالمستبد وأنه سيضعْ حداً لتدخلاته في  سوريا وليبيا،إذا ما أصبح رئيساً لامريكا.وفي نهاية القائمة،تأتي إسرائيل،الهانئة والفائزة دوماً وسْط َ منطقةٍ هي ألاكثرشَغَباً واضطراباً في العالم،هي الدولة الوحيدة التي لا تتأثر إلاّ إيجاباً،بأي نزيلٍ للبيت الأبيض، جمهورياً كان أم ديموقراطي،فمكانة إسرائيل وأمنها مصونان لا يتزعزعان. فيا لدهاء بني إسرائيل!!. صحيح،أن السياسة ألامريكية،تمارس وفق مبدأ أن(لا صداقة دائمة ولاعدوٍ دائم،بل مصالح دائمة)،وأن كل الرؤساء ألامريكيين إبتداءأً من جورج واشنطن وحتى ترامب،طبقوا المبدأ بأمتياز،لكن بحسب المعلومات الاولية التي نُشِرتْ عن أعضاء فريق بايدن ألاداري وماهية أفكارهم ورؤاهم وما يحملوه في جعبهم من حلولٍ لقضايا داخلية وخارجية ساخنة،فربما  يسهل على المرء معرفة ملامح اللوحةٍ السياسية التي رسمها بايدن في خياله الخصب عن العالم للسنوات الأربع القادمة.  فلوبدأنا بنائبة الرئيس"كمالا هاريس"نجدها من الشخصيات الداعمة بقوة لأمن وسلامة دولة إسرائيل،وطالما دعت إلى ضرورة إحلال ألامن والسلام في منطقة الشرق ألاوسط من خلال نبذ العنف ودعوة ألاطراف الفلسطينية والعربية إلى الحوار مع إسرائيل.وهناك من يشارك "هاريس"في هذه الرؤى،كلآ من"وليام بيرنز"مديرالاستخبارات،و"لويد أوستن"وزيرالدفاع و"جايك سوليفان"مستشار ألامن القومي للرئيس بايدن،جميعهم من الداعمين لدولة إسرائيل والمؤيدين بقوة للحوار والسلام ولسان حالهم يقول: أن لا تقدم ولا إزدهار اقتصادي دون أمنٍ وسلامٍ شاملٍ يعم المنطقة. أما وزيرالخارجية"أنتوني بلينكن"،ومساعده لشؤون الشرق ألاوسط"بريت ماككورك"،فهذانِ كقطعتي الرخْ في لعبة الشطرنج(إنْ جازَ التعبير)،يستندُ عليهما الرئيس بايدن في سياسته الشرق أوسطية،لا سيما مع الدول ألاربع المُقلِقة لأمريكا وهي: العراق وتركيا وسوريا وايران.  ف"بلينكن"الذي يُعرفْ عنه الصرامة والحزم في القرارات الستراتيجية،يدعو إلى ضرورة إتخاذ مواقف أكثرُ تشدّداً وصرامةً ضد أردوغان،ولزوم وضع حدٍ لتدخلاته العسكرية في المناطق ذات الادارة الكوردية في شمال سوريا،وإخراج مرتزقتهُ إلاسلاميين من ليبيا والعمل على تحجيم قوة تركيا وإرادتها التوسعية،حتى إنْ تطلب في تحقيق ذلك بتدخلٍ عسكري،وفيما يخص إيران فأنه"بلينكن"،اعلن مساء أمس أن أمريكا مستعدة بفتح باب الحوار معها إذا ما التزمت بشروط وكالة الطاقة الذرية التابعة للامم المتحدة لما يخص برنامجها النووي.   ومَنْ يشاطرُ"بلينكن"الرأي هذاويؤيده بقوة،هو"بريت ماككورك"،ذلك الرافض لسياسة ترامب في سوريا واستقال من وظيفته كمبعوث أمريكا لشؤن الشرق الاوسط على خلفية السماح لجيش أردوغان باحتلال مدينة عفرين ومناطق اخرى من شمال سوريا،كما يُعرَفُ عن"ماككورك" أنهُ خيرُ صديقٍ للكورد،إذ طالما دعى الى ضرورة دعم الكورد وتسليحهم سواءً في سوريا أو في العراق،كما ان للرجل موقف أخلاقي مميز،سيظل الكورد يستذكروهُ جيل عن جيل طالما حُيوا، وذلك كان في 2015،حينما كانت مدينة"كوباني" ايلةٌ للسقوط بيد قوات داعش ألارهابية،أسرع "ماككورك"هذا واقنع إدارة أوباما والمسؤلين في البنتاكون على وجوب التدخل ودعم القوات الكوردية في"رۆژاڤا" والبيشمركة،كما طالب لحماية الكورد في العراق وسوريا،وبمساعيه تلك،دُحِرَت فلول ألارهاب الداعشي وسقطتْ دولتهم التي سمَّوها بدولة الخلافة على ايادي الكورد الى الابد. إذن،يبدو أن الرئيس بايدن،اراد في خطابه أن يقول للعالم،أن انتصار الديموقراطية لم يقتصر ضمن حدود الولايات المتحدة وعلى ترامب فحسب،وإنّما سوف ينشر بظلاله على العالم كله،وسوف تُهزمْ إرادة كلَّ طاغيةً ومستبد.            


روبرت فورد كانت لي محادثات جادة مع نائب الرئيس جوزيف بايدن، أثناء رحلاته إلى بغداد في عام 2009 وأوائل عام 2010، وكنت إلى جواره على مائدة العشاء في كلتا المناسبتين. ولقد أوضحت إحدى الدبلوماسيات من الشباب بالتفصيل أسباب مجادلة بعض السياسيين العراقيين حول مسألة من المسائل. ولقد قاطعها السيد بايدن بعد دقيقة ليقول: «لدي بنفسي، بعض الخبرة في الأمور السياسية». إنَّ جوزيف بايدن مستمع جيد، غير أنَّه لا يتحمل إلقاء المحاضرات الطويلة الممتدة على مسامعه. فضلاً عمَّا يملكه من خبرات واسعة في المجال السياسي، كانت أولى تجاربه الانتخابية لعضوية مجلس الشيوخ الأميركي في عام 1972، عندما كان الرئيس ريتشارد نيكسون حاكماً على البيت الأبيض. ولم يبرح السيناتور بايدن مقعده في مجلس الشيوخ طيلة 38 عاماً منذ ذلك الحين. ثم هو شغل منصب نائب رئيس الولايات المتحدة لثماني سنوات متتالية أخرى. ويشدد السيد بايدن، على العكس من باراك أوباما، على أهمية العلاقات الشخصية بأكثر من الاستناد إلى التحليل المجرد أو الحجج القانونية الرصينة. وهو أكثر الناس شبهاً بالسيد جون كيري، من حيث الحديث بصورة مباشرة من دون مواربة، وأحياناً بدرجة أكثر من اللازم. ويفضل كلا الرجلين مناقشة الأمور السياسية والقضايا ذات الأهمية، ويصيران أكثر حماساً وسروراً مع تعمق المناقشات – وذلك طالما أنهما يشعران أن أطراف المناقشة من الجانب الآخر يكنان نفس قدر الاحترام إليهما. تشير شخصية السيد بايدن وخبرته السياسية الطويلة إلى أنّه يعرف الكثير من الناس – ولا بد أن هاتفه الخلوي الخاص يحمل أفضل قائمة من الشخصيات المهمة في كافة أرجاء الولايات المتحدة، سيما داخل المعترك السياسي. وهو على معرفة جيدة بقادة الحزب الجمهوري المعارض، وعلى وجه الخصوص السيناتور ميتش ماكونيل زعيم الأغلبية الجمهورية الأسبق في مجلس الشيوخ. ويشدد السيد بايدن رفقة المتحدثة الرسمية باسم البيت الأبيض السيدة جين ساكي على الوحدة الوطنية في البلاد. وجوزيف بايدن مخلص للغاية في ذلك. ولقد دعا قادة الحزبين الجمهوري والديمقراطي لمرافقته إلى قداس الكنيسة قبل مراسم التنصيب الرسمية في 20 يناير (كانون الثاني) من العام الجاري، ولم يتخلف منهم أحد.   ويعتبر السيد بايدن، على غرار وزير الخارجية الأميركي الأسبق جيمس بيكر، من حيث اهتمامه بالجوانب العملية البراغماتية وتفضيلها على الأطروحات الآيديولوجية. فإنّه سيبحث عن الوسائل المؤدية إلى التسوية والوصول إلى إبرام الصفقات السياسية، كما سيحتاج إلى الاستعانة بهيبته وجاذبيته الشخصية، وإخلاصه الوطني، واستعداده الكبير لعقد المساومات إن كان يرغب حقاً في التعامل والتعاون مع الحزب الجمهوري المعارض الذي ما يزال غاضباً للغاية من نتائج الانتخابات الرئاسية الأخيرة. وإذا ما نجح جوزيف بايدن في ذلك الأمر، ستنشأ جولات بالغة الاحتدام من المفاوضات المكثفة، حول إجراءات الحكومة الأميركية في مواجهة جائحة فيروس «كورونا»، وبشأن مقترح السيد بايدن بإنفاق 1.9 تريليون دولار في مساعدة الأفراد، والشركات، والولايات في مكافحة التداعيات السلبية للوباء الراهن على المجتمع الأميركي. وصرحت السيدة جين ساكي المتحدثة الرسمية باسم البيت الأبيض في وقت سابق من الأسبوع الجاري، بأن السيد بايدن يذهب إلى النوم وهو منشغل بالتفكير في كيفية الاستجابة إلى مواجهة الوباء، ثم هو يستيقظ في الصباح وما يزال يفكر في نفس الأمر. إنني أعرف السيدة ساكي جيداً منذ أن كانت تشغل منصب المتحدثة الرسمية باسم الخارجية الأميركية في وزارة السيد جون كيري، وهي امرأة ذكية، وعلى قدر كبير من الوعي السياسي. فإن صرحت تقول إنَّ الوباء هو جل أولويات السيد جوزيف بايدن، فإنني أثق بقولها تماماً. ومن ثم، ليس من الواضح حتى الآن مقدار الوقت الذي يمضيه الرئيس الجديد بعيداً عن الاجتماعات والمفاوضات بشأن محاولة التغلب على الوباء الراهن، ومن أجل صياغة أجندة السياسات الخارجية لإدارته الجديدة. يعرف السيد بايدن الكثير من قادة العالم، من الرئيس شي في الصين إلى الرئيس بوتين في روسيا، وأنجيلا ميركل في ألمانيا وحتى جوستين ترودو في كندا. (ومن المثير للاهتمام في السياق نفسه، أنَّه يعرف العديد من العراقيين غير أنَّه لا يعرف رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي الذي كان صحافياً، إبان إدارة الرئيس الأسبق باراك أوباما). كانت أولى محادثات جوزيف بادين الخارجية كرئيس للولايات المتحدة الأميركية، مع السيد جوستين ترودو رئيس الوزراء الكندي. وهذه عبارة عن رسالة مقصودة مفادها أن الولايات المتحدة تطمئن حلفاءها التقليديين إلى أنَّه سيواصل تنسيق التعاون معهم في مواجهة التهديدات المشتركة. وهناك قائمة مطولة من المكالمات الهاتفية التي يجري إعدادها لأجل الرئيس بايدن مع مختلف القادة الأجانب كرئيس جديد للبلاد. غير أنَّ المكالمات مع الحلفاء التقليديين تأتي على رأس الأولويات قبل مهاتفة الخصوم السياسيين من هنا أو هناك. ومن شأن جوزيف بايدن أن يتحدث بصراحة في بعض الأحيان. على سبيل المثال، لقد اتخذ قراره بإلغاء مشروع خط أنابيب النفط مع كندا الذي كان السيد ترودو يدعمه، ولقد وافق عليه الرئيس الأسبق دونالد ترمب، نظراً لأنَّ الرئيس بايدن يضع الأولوية القصوى للإقلال من الاعتماد على المصادر الهيدروكربونية مع إبطاء التغييرات المناخية. كما يمنح السيد بايدن، وهو السياسي الديمقراطي التقليدي، أولوية أخرى لملف حقوق الإنسان. ولفريقه موقف مختلف في اليمن، مع محاولة لإعادة النظر في إدراج الحوثيين على قوائم المنظمات الإرهابية من وزير الخارجية الأميركي الأسبق مايك بومبيو. لكن لا بد أن نتذكر أنَّ جوزيف بايدن رجل براغماتي. إذ تستشعر الإدارة الأميركية الجديدة القلق بشأن إجراءات بومبيو ضد الحوثيين ليس استناداً إلى التعاطف الآيديولوجي معهم، وإنما بسبب أنهم لا يرغبون أن يسفر إدراجهم على قائمة التنظيمات الإرهابية إلى حجب قنوات المساعدات من الوصول إلى أجزاء في اليمن ترزح تحت سيطرة الحوثيين حتى الآن. ومن شأن السيد بايدن وفريقه الرئاسي أيضاً أن يتوجه بالانتقادات إلى أوضاع حقوق الإنسان في بلدان في الشرق الأوسط وأمور أخرى. وستكون الانتقادات بشأن حقوق الإنسان قوية، وقاسية، وعلنية، لكنها لن تعني أن الحكومة الأميركية الجديدة ستلغي كافة أشكال التعاون والحوار مع البلدان المعنية. وسيستمر السيد بايدن العملي للغاية، في البحث عن سبل التعاون بشأن المصالح المشتركة من شاكلة مكافحة التطرف، وإبطاء التغيرات المناخية، حتى مع البلدان التي ينتقدها بسبب ملفات حقوق الإنسان. ذلك هو أسلوبه وتلك هي شخصيته. والتساؤل الكبير في هذا السياق، ما إذا كان الأصدقاء والحلفاء القدامى للولايات المتحدة، على استعداد حقيقي لرؤية الولايات المتحدة تستأنف دورها القيادي على الصعيد العالمي من دون أسئلة.   * السفير الأميركي السابق لدى سوريا والجزائر والباحث في معهد الشرق الأوسط في واشنطن


     كفاح محمود كريم تنّهمك الطبقة السياسية العراقيّة في ترتيبات إجراء انتخابات جديدة مبكرة منذ أكثر من سنة، ردّاً على احتجاجات تشرين 2019، التي أدّت إلى استقالة حكومة عادل عبد المهدي، والدخول في ماراثون المرشح البديل لحكومة الانتخابات المقترحة، وفي خضم هذا التهافت على إنتاج برلمانٍ بمجلسٍ واحد على ما يبدو خلافاً للدستور، تتكاثر الأحزاب تكاثراً شباطياً وانشطارياً، حيث تقترب من 300 حزب تحت مُسميات تبعد عنها الشبهة بالطبقة السياسية التي تتحكم بالنظام البديل لنظام الرئيس صدام حسين منذ 2003، والتي رفضتها تظاهرات ملايين العراقيين في بغداد وفي الوسط والجنوب العراقي، وهي في حقيقتها عملية تمويه لاستنساخ أحزاب وكتل بعناوين مختلفة عن النسخ الأصلية المتنفذة، وهذه المرة بأذرع ميليشياوية تُهيمن على الشارع، وعلى شريحة واسعة من المراهقين المغامرين والمهوسين بالنشاط الميليشياوي، مستخدمةً أجهزة دعاية تقدمها مجموعة كبيرة من الفضائيات المؤدلجة التي تستثمر نزعات طائفية وقبلية وعرقية في توظيف إشكاليات محلية ودينيّة وخارجية ومن بينها الخلافات بين إقليم كوردستان والحكومة الاتحادية بما يتناغم مع إذكاء الشعور بالمظلومية، جرّاء فشل تلك الأحزاب من إحداث تغيير نوعي في طبيعة حياة مواطنيها، وتعليق الأمر بشماعة الإقليم، للتغطية على كميات الفساد الهائلة التي رافقت حكمها منذ إسقاط نظام البعث وحتى يومنا هذا. وفي خضم هذا المشهد المعقد من الصراعات السياسية البينية والخارجية، والتورط في إشكاليات إقليمية ودولية لا مصلحة للعراقيين فيها، يبدو أن إجراء انتخابات مبكرة ونزيهة صعباً إن لم يكُ مستحيلاً في هكذا بيئة ومجتمعات تغصّ بالأمية الأبجدية والحضارية، وتتحكم فيها الأعراف القبلية والطائفية، وتفتقد إلى أبسط مفاهيم المواطنة الجامعة، وتُشرف عليها هيئة انتخابية مرتهنة لطبقة سياسية، أثبتت فشلها الذريع وتسببت وبعد أكثر من خمسة عشر عاماً في وصول البلاد إلى هذا المستوى من الانحدار، حيث الأزمة الاقتصادية الخانقة، وعدم وجود محكمة اتحادية دستورية مكتملة، ناهيك عن طبيعة المجتمع ونسيج عاداته وتقاليده التي تؤثر بشكل بالغ على نوعية من يصل إلى هيئة التشريع، فإذا كانت الديمقراطية حلاً لكثير من مشاكل النّظم السياسية في العالم، فإن أحد أهم أدواتها ووسائلها في تداول السلطة بواسطة صناديق الاقتراع ليست حلاً لمشاكل مجتمعنا، بل بالعكس تماماً غدت كارثة أكثر إيلاماً من الشموليات التي انفرد فيها حزب قائد ودكتاتور أوحد، وما يجري اليوم في معظم بلداننا الشرق أوسطية تحديداً وفي العراق خاصةً منذ 2003، يؤكد على فشل استخدام هذه الآليات وأدواتها في هكذا بيئة، وضرورة البحث عن وسائل وأدوات أخرى غير تلك المعتمدة في دول الديمقراطيات العريقة والمجتمعات التي تختلف كلياً في تركيبتها الاجتماعية والقيمية عن مجتمعاتنا، مع الحفاظ على روحية النظام الديمقراطي والعمل على تكريسه تربوياً وتعليمياً واجتماعياً، بدءاً من الأسرة والمدرسة لإحداث تغييرات نوعية في بناء المجتمع وتهيئته لتطبيقات ديمقراطية ناضجة.


حسين عبد العزيز يكاد يكون مصطلح الشعبوية من أكثر المصطلحات السياسية غموضا، فهو مائع من جهة، لأنه يفتقر إلى بنية مفهومية واضحة، ولزج من جهة أخرى، لأنه يرتبط بمقارباتٍ أيديولوجيةٍ من دون أن يتحول إلى أيديولوجيا كاملة. تتقاطع مع الكفاح من أجل البناء الوطني، ومع مضامين سياسية في لحظات معينة، ومع استياء شعبي تجاه الآخر في البيئة الوطنية، ومع القومية، فتظهر عند اليمين كما اليسار، والشعب كما النخب، وتظهر في الأنظمة الديمقراطية ـ الليبرالية والاشتراكية، كما في الأنظمة الاستبدادية. لهذا السبب، لا يوجد تعريف محدّد للشعبوية بين المفكرين الذين درسوا الظاهرة، وإن كان قاموس أكسفورد قد عرّفها بأنها "ضرب من السياسة يسعى إلى تمثيل مصالح ورغبات الناس العاديين الذين يشعرون بأن جماعات النخبة المترسخة تتجاهل شواغلهم". وقاموس بوتي روبير بأنها "خطاب سياسي موجه إلى الطبقات الشعبية، قائم على انتقاد النظام ومسؤوليه والنخب". ولكن هذين التعريفين لا يحيطان بالمفهوم إحاطة كاملة، وهو ما دفع عالم الاجتماع الفرنسي، برتران بادي، إلى القول إن شدة المحاولة في جعل الشعبوية نظاما موصوفا متميزا، تؤدي إلى الفشل في إيجاد أسس نظرية له. من هنا دعت ناديا أوربيناتي إلى التوقف عن المناقشات المتعلقة بماهية الشعبوية وأسبابها العميقة، والانتقال إلى دراسة نتائجها باعتبارها مشروع حكم. تسلط هذه المقالة الضوء على خمس مقارباتٍ تناولت إشكالية الشعبوية، من حيث الأسباب التي أدّت إلى نشوئها، والنتائج التي تتوخّى إحداثها داخل البيئة السياسية. موفي ولاكلاو  يكاد يتفق معظم دارسي الشعبوية على أنها ظاهرة موجودة في كل الأنظمة السياسية على السواء، بيد أن اهتمام الباحثين تركّز على هذه الظاهرة داخل البلدان الديمقراطية ـ الليبرالية، لأنها أكثر وضوحا، ولأنها ناجمة عن أسباب موضوعية شبه مستدامة في ظل النظام السياسي القائم. التوتر بين الديمقراطية والليبرالية انتهى بعد انتصار النيوليبرالية وإخماد الديمقراطية التي تحولت إلى احتفال بالانتخابات فقط تعتبر عالمة الاجتماع البلجيكية شانتال موفي أن الوضع الذي تعيشه البلدان الديمقراطية ـ الليبرالية يمكن تسميته "ما بعد الديمقراطية"، لأن التوتر بين الديمقراطية والليبرالية قد انتهى بعد انتصار النيوليبرالية (تمدّد القطاع المالي على حساب القطاع الإنتاجي، تزايد الخصخصة) وإخماد الديمقراطية التي تحولت إلى احتفال بالانتخابات فقط. تدرك موفي، منذ البداية، صعوبة الجمع بين التزام التعدّدية الاجتماعية والتزام المساواة بمتانة، لأن البنى المصمّمة لتعزيز المساواة تقيد الالتزام الأول. ولكن انتصار النيوليبرالية بهذا الشكل، وما نتج عنها من نشوء أوليغارشية فجّة، جعلها من أنصار الدعوة إلى إعادة بناء "الديموس"، وهذا لا يحصل إلا بتدخلٍ سياسي شعبوي، من أجل إعادة القوة إلى ديمقراطيةٍ تنادي بالمساواة من دون إلغاء التعدّدية.  مقاربة شانتال متأثرة بالتأكيد بنظرية لاكلاو (زوجها) الذي يعتبر الشعبوية مقاربة إيجابية، لأنها تنتج هوية جمعية، تجعل السياسة ممكنةً لفئةٍ كبيرةٍ في المجتمع، لمواجهة خطر البيروقراطية وخطر استبداد الأوليغارشية. يؤكّد لاكلاو وموفي أن الديمقراطية ـ الليبرالية هي سبب نشوء الشعبوية، وأن الديمقراطية الراديكالية (ديمقراطية الشعب أو الديمقراطية المباشرة) هي الحل، لأنها تتجنّب المذهب الاستبدادي المرتبط باليقين الحديث بوجود حقيقة وقيمة مطلقتين من جهة، وبتصدّع التضامن الاجتماعي وتفكّكه المرتبطين بالألعاب اللغوية لما بعد الحداثة من جهة أخرى، وفق كلمات كيث ناش. بالنسبة لـ لاكلاو، يوجد شرطان لنشأة الشعبوية: نشأة السلسلة المتكافئة من المطالب، ونشأة الحد التخاصمي بين السلطة وسلسلة المطالب، ثم حصول توحيد رمزي لسلسلة المطالب. بعبارة أخرى، تنشأ سلسلة من المطالب الاجتماعية المختلفة في وجه السلطة. وعند هذه المرحلة لا تنشأ الشعبوية، لأننا أمام مجرد مطالب، وعندما يحدث توحيد رمزي لهذه المطالب مجتمعة، تحدث خصومة حادّة مع السلطة، هنا تنشأ الشعبوية. ولكن هذه المعطيات الثلاثة تتوفر في أية انتفاضة شعبية ضد النظم الاستبدادية، وبالتالي هي غير كافية لتحديد التمايز بين الشعبية والشعبوية. وقد تنبه إلى ذلك المفكر السلوفيني سلافوي جيجك الذي كان ردّه على لاكلاو عاملا مساعدا في فهم نظرية الأخير. يرى جيجك أن العناصر الثلاثة التي تحدّث عنها لاكلاو لنشوء ظاهرة الشعبوية لا تكفي لوصف أي حركة اجتماعية بوصف الشعبوية، فهناك حركاتٌ اجتماعيةٌ لم تكن شعبوية، مثل حركة الحقوق المدنية في الولايات المتحدة. يرد لاكلاو أن هذه الحركة لم تُحدث خصومة سياسية مع السلطة، وبالتالي لا يمكن أن تكون استراتيجية سياسية للقوى الديمقراطية. حل التوتر بين الديمقراطية والليبرالية لا يكون إلا من خلال نضال وصراع حاد ضد النخبة الحاكمة، وليس من خلال الحوار العقلاني  تطرح نظرية لاكلاو إشكالات كثيرة، لأن فكرة الحد التخاصمي بين فئة اجتماعية من جهة والسلطة من جهة أخرى، كانت حالة متوفّرة في كل الحركات أو الانتفاضات الاجتماعية، خصوصا في الأنظمة الاستبدادية، وفي الأنظمة الديمقراطية الناشئة. الغريب في مقاربة لاكلاو أنه في وقتٍ يؤكّد فيه أن منشأ الشعبوية كان نتيجة التوتر بين الديمقراطية والليبرالية، يقدم حلا من خارج السياق الديمقراطي ـ الليبرالي، حيث يعتبر أن حل التوتر بين الديمقراطية والليبرالية لا يكون إلا من خلال نضال وصراع حاد ضد النخبة الحاكمة، وليس من خلال الحوار العقلاني.   من الواضح أن فكرة الصراع ناجمةٌ عن الخلفية الماركسية للاكلاو، وناجمة أيضا عن معاينته التجربة السياسية في أميركا اللاتينية، حيث كان الصراع ضد النخب السياسية ـ الاقتصادية حادا. موده وكالتواس يتفق كاس موده وكالتواس مع لاكلاو وموفي في أن الشعبوية هي نتاج الأنظمة الديمقراطية ـ الليبرالية، وأنها رد فعل ديمقراطي على التجليات غير الديمقراطية لليبرالية، ويتفقان معهما أيضا في أن الشعبوية ديمقراطية في جوهرها، ولها بعد إيجابي (مشاركة جمهور الناخبين في السياسة)، وإن كانت تختلف عن الأنموذج الديمقراطي ـ الليبرالي السائد، من حيث أنها ترفض تقييد إرادة الشعب، وترفض فكرة الليبرالية القائمة على التعددية. ولكن موده وكالتواس يختلفان مع لاكلو وموفي في اعتبار أن للشعبوية منطقا سياسيا، وأنها تعيد الحياة للديمقراطية، فبرفض الشعبوية الليبرالية، قد ننتهي بنزعة استبدادية هوياتية تدمر النظام السياسي القائم. وبالنسبة لـ موده تحديدا، التقسيم الأخلاقي للعالم هو السبب في نشوء الـ "نحن"/ "الشعب"، مقابل الـ "هم"/ "النخبة"، الأولى خيرة والثانية فاسدة. وعلى الرغم من ذلك، يرى موده وكالتواس أن الشعبوية قد يكون لها تأثير إيجابي في الديمقراطيات الناشئة في الأنظمة الديمقراطية ـ الليبرالية المتطوّرة. وفي حالة الديمقراطيات الناشئة، ثمّة أثر إيجابي للشعبوية، خصوصا في المرحلتين، الأولى والثانية، من عملية الانتقال من النظام الاستبدادي إلى النظام الديمقراطي. في المرحلة الأولى، تطبيق الليبرالية، تبدأ الشعبوية في تطبيق الليبرالية، حين يرفع نظام استبدادي بعض القيود، ويوسّع بعض الحقوق الفردية والجماعية، وهي من هذا الجانب عامل إيجابي للديمقراطية. وفي المرحلة الثانية، مرحلة الانتقال من الليبرالية إلى الديمقراطية، تلعب الشعبوية دورا إيجابيا، بسبب دفاعها عن مبدأ انتخاب الناس لمن يحكمهم. تمظهر الشعبوية في معاداتها البعد الليبرالي قد يوضح تجليات الشعبوية على مستوى الخطاب السياسي، لكن لا يوضح الأسباب العميقة للظاهرة أما تأثير الشعبوية في الأنظمة الديمقراطية ـ الليبرالية، فهو إيجابي وسلبي، فهي من جهة تكون مصححة لمسار الديمقراطية من حيث إسماعها صوت جمهور الناخبين الذين لا يشعرون بأن النخبة تمثلهم. ومن جهة ثانية، تؤثر الشعبوية سلبا من خلال ادّعائها عدم أحقية أي مؤسسة في تقييد حكم الأغلبية، وهي عمليةٌ قد تنتهي بالقوى الشعبوية إلى مهاجمة الأقليات، وتقويض جهد المؤسسات المتخصصة في حماية حقوق الإنسان الأساسية، وإن كان موده وكالتواس يستبعدان حصول ذلك بسبب قوة النظام الديمقراطي ـ الليبرالي. لا تسعف هذه المقاربة في تحديد الفرق الجوهري بين الشعبي والشعبوي، فوفقا لمقاربة موده وكالتواس، يصبح كل ضغط شعبي على الأنظمة الاستبدادية ظاهرة شعبوية، وتصبح كل حركة اجتماعية ـ سياسية مناهضة للاستبداد أو داعية إلى تصحيح العلاقة المتوترة بين الديمقراطية والليبرالية، هي حركة شعبوية. ومع أنهما أوضحا في مقدمة كتابهما "مقدمة مختصرة في الشعبوية" أن دراستهما الشعبوية تأتي من منظور ديمقراطي ـ ليبرالي، لأن الشعبوية تتضح إذا ما قورنت بالديمقراطية ـ الليبرالية، فإن تمظهر الشعبوية في معاداتها البعد الليبرالي، قد يوضح تجليات الشعبوية على مستوى الخطاب السياسي، لكن لا يوضح الأسباب العميقة للظاهرة. فيرنر مولر عمل فيرنر مولر على تكثيف مفهوم الشعبوية، من أجل تمييزها عن الظواهر السياسية الأخرى المشابهة، فلا يجب أن نستخلص منها أساسا قوميا أو عنصريا. ولا يجب ربطها بالزعامة، ولا يمكن معرفة الشعبويين من خلال معرفة ناخبيهم في أسفل الطبقة الوسطى، ولا يمكن اعتبار نقد النخبة معيارا كافيا لتحديد المفهوم، ولا يمكن اعتبار معاداتها التعدّد سمة خاصة بها. وفي مقابل هذه التوضيحات، يقدم مولر سماتٍ تميز الشعبوية: ادّعاء أنهم يمثلون إرادة الشعب من أجل ضرب المؤسسات الديمقراطية التي لا يسيطرون عليها، رفض الشعبوية التعدّد (الليبرالية)، رفضها النخبة الحاكمة، رفضها البرلمان بوصفه مؤسسة وسيطة، تحويل عملية التمثيل السياسي إلى عملية تفويض كامل. لا تظهر هذه السمات إلا في الأنظمة الديمقراطية ـ الليبرالية. ولذلك يعتبر مولر أن ظاهرة الشعبوية ستبقى ما بقيت الديمقراطية قائمة، وأنها ظاهرة معادية ليس فقط لليبرالية، بل أيضا للديمقراطية (بخلاف لاكلو وموفي وموده وكالتواس) لأن الشعبوية تضع سيادة الإرادة الشعبية فوق كل شيء، وتجري تقسيما أخلاقيا بين "نحن" و"هم"، تقسيم سرعان ما يحمل بعدا أخلاقيا ومن ثم هوياتيا، في عودة ما ورائية إلى ما قبل مكيافيلي لربط السياسة بالأخلاق ربطا محكما. الشعبوية ارتبطت بالديمقراطية في سياق تاريخي خاص، وهو الأمر الذي جعلها تتميز عن التيارات السياسية المعارضة للديمقراطية أو المنافسة لها الشعبوية هي انعكاس لسياقاتٍ ثلاثة غير مسبوقة تعيشها الديمقراطية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية: سياق الإشكالية السياسية التي طرحتها النازية بديلا للمؤسسات الديمقراطية، من داخل الديمقراطية ذاتها التي كانت حكومة فايمار تجسيدا لها. سياق شعبوي نشأ في أوروبا الشرقية ما بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، ووجّه نقده إلى الاتحاد الأوروبي كمؤسسة محكومة من بيروقراطية غير منتخبة، تفتقر لأي بعد ديمقراطي. سياق الأزمة المالية ـ العقارية في الولايات المتحدة عام 2008، وما فرضته من سياسات تقشف أثّرت سلبا على فئات اجتماعية كبيرة.   تؤكد هذه السياقات الثلاثة، وفقا لمولر، أن الشعبوية ارتبطت بالديمقراطية في سياق تاريخي خاص، وهو الأمر الذي جعلها تتميز عن التيارات السياسية المعارضة للديمقراطية أو المنافسة لها، فليست كل التيارات المعادية أو المنتقدة للديمقراطية شعبوية، وليست كل التيارات التي تتحدّث باسم الشعب شعبوية، فما يميزها عن التيارات السياسية أن الشعبوية تعارض الديمقراطية من قلب فكرة الديمقراطية نفسها. ناديا أوربيناتي ليست الشعبوية أيديولوجيا أو نظاما سياسيا محددا، بل هي سيرورة تمثيلية، تتكوّن عبرها ذات جمعية، بحيث يكون في مقدورها الوصول إلى السلطة. تحاجج أوربيناتي في أن الديمقراطية الشعبوية اسم نمط جديد من الحكم التمثيلي، يرتكز على ظاهرتين: علاقة مباشرة بين الزعيم وأولئك الذي يعرفهم الزعيم بأنه صالحون أو أخيار. تخويل سلطة مفرطة لجمهور المتلقين، وأهدافها المباشرة هي العقبات التي تعترض تطوّر هاتين الظاهرتين: هيئات صنع الرأي الوسيطة (الأحزاب، وسائل الإعلام، الأنظمة ذات الطابع المؤسسي المخصصة لرصد السلطة السياسية ومراقبتها). تنامي أوليغارشية مستفحلة وجشعة تجعل السيادة سرابا. الشعبوية إذا، مشروع حكمٍ جديدٍ للحكم التمثيلي، إلا أنه مشوّه، لأنه يبعد المعارضة ويجعل السياسة غير ممكنة. وهذا لا يتحقق إلا بإجراء تحويل في ركائز الديمقراطية الحديثة الثلاث: الشعب، مبدأ الأغلبية، التمثيل، وهذا هو هدف كتابها "أنا الشعب: كيف حوّلت الشعبوية مسار الديمقراطية". تتفق ناديا أوربيناتي مع نقد جيجك لاكلاو بأن من غير الصحيح التعامل مع الشعبوية بوصفها متطابقة مع الحركات الشعبية أو الاحتجاجية، إذ قد تتضمّن الحركات الشعبية بمفردها خطابا شعبويا، لكنها لا تمتلك مشروع سلطة شعبوية. ثمّة فرق بين حركات ديمقراطية معترضة على اتجاه اجتماعي يرى المواطنون المعبأون خيانة للمبادئ الأساسية للمساواة، ومقاربة شعبوية تسعى إلى التغلب على المؤسسات التمثيلية والفوز بأغلبية حكومية من أجل نمذجة المجتمع وفق أيديولوجيتها الخاصة بالشعب. فقدان الثقة في من يتولون السلطة وانتقادهم هما مكونان من المكونات الأساسية في الديمقراطية، ولا يفسّران الشعبوية وفي سياق ردّها على نظرية لاكلاو وموفي، تتوجه أوربيناتي مباشرة إلى القول إن بنية الشعبوية لا تميل من تلقاء نفسها إلى نوع من السياسة التحرّرية، مهما حاول يساري، مثل لاكلاو، ترويجه. وإذا وصفت الديمقرطية بأنها إستراتيجية للظفر بالسلطة قائمة على القبول، ينتهي توصيف لاكلاو الشعبوية باحتواء السياسة الديمقراطية عامة، ووفقا لرؤية لاكلاو تصبح كل السياسات شعبوية.  تتفق أوربيناتي مع مولر في اعتبار الشعبوية مضادّة للديمقراطية، لكنها ترفض حججه، فالتقسيم المانوي الأخلاقي الذي وضعه مولر وكوده وكالتواس في صلب الشعبوية "نحن" و"هم"، لا يفسّر خصوصية الشعبوية، ذلك أن "نحن" و"وهم" هي محرّك أنماط التجمع الحزبي كافة، وإن كان ذلك بكثافاتٍ وأساليب متباينة، فضلا عن أن فقدان الثقة في من يتولون السلطة وانتقادهم هما مكونان من المكونات الأساسية في الديمقراطية، ولا يفسّران الشعبوية. وترفض أوربيناتي مقاربة موده وكالتواس في أن الشعبوية تعادي النموذج الديمقراطي ـ الليبرالي فقط، ولا تعادي الديمقراطية في ذاتها، فمن وجهة نظرها إن التمييز بين الديمقراطية والليبرالية في الأنظمة المعاصرة لا يوضح منشأ الشعبوية، لأن الديمقراطية تحيل إلى مزيج من السيادة الشعبية وحكم الأغلبية، وإن إسناد قيمة الحرية إلى الليبرالية لا إلى الديمقراطية يعجز عن توضيح العملية الديمقراطية نفسها. ومن منظور ثنائية الحكم الذي تعتمده، تدحض أوربيناتي الحكمة التقليدية التي تُفهم الشعبوية وفقها بوصفها ديمقراطية غير ليبرالية، فديمقراطية تنتهك الحقوق السياسية الأساسية، وتمنع تشكل أغلبيات جديدة ليست ديمقراطية على الإطلاق. ولذلك التمييز بين ديمقراطي وديمقراطي ـ ليبرالي فعل مضلّل. ليست كل استراتيجية شعبية هي شعبوية، لكنها قد تتضمّن عناصر شعبوية يكمن القصور الرئيسي في المقاربات الأيديولوجية في حقيقة أنها لا تولي اهتماما كافيا بالجوانب المؤسسية والإجرائية التي تتّصف بها الديمقراطية وتظهر الشعبوية ضمنها. لا توضح هذه المقاربات، وفقا لأوربيناتي، ما الذي يجعل تركيز الشعبوية المتصل بمناهضة مؤسسة الحكم مختلفا عما نجده في الباراديغم الجمهوري، أو في السياسة المعارضة التقليدية، أو حتى في التحزّب الديمقراطي؟ عزمي بشارة قد يبدو الخلط بين الشعبية والشعبوية مفهوما إلى حدّ ما في الأنظمة الاستبدادية والأنظمة التي تنتقل نحو الديمقراطية بسبب صعوبة تلمّس الظاهرة بعيدا عن الحالة الشعبية الغاضبة، وهي مسألة حرص عزمي بشارة على تأكيدها في مقدمة كتابه "في الإجابة عن سؤال: ما الشعبوية؟" (المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2019)، حين قال "ليست كل استراتيجية شعبية هي شعبوية، لكنها قد تتضمّن عناصر شعبوية"، لكن الخلط بين الشعبية والشعبوية في الأنظمة الديمقراطية ـ الليبرالية يبقى غير مفهوم. لم تكن مهمة كتاب عزمي بشارة "في الإجابة عن سؤال: ما الشعبوية؟" تقديم سرد نظري للشعبوية، بقدر ما هي قراءة للبنى السياسية والاجتماعية والاقتصادية للبلدان والمجتمعات المتطوّرة، بحيث لا يمكن فهم الشعبوية من دون فهم آليات عمل النظام الديمقراطي ـ الليبرالي ومشكلاته. إنها علاقة جدلية: تُفهم الشعبوية من خلال فهم النظام الديمقراطي ـ الليبرالي، بقدر ما تُفهم مشكلات الأخير من خلال الشعبوية، كتجلٍّ للتوتر الدائم في هذه الأنظمة. يتفق بشارة مع دارسي الشعبوية في أنها نتاج للتوتر بين التقليدين، الديمقراطي والليبرالي، لكنه يغوص أكثر في فهم الميكانيزمات الاجتماعية والسياسية لهذا التوتر. ويحدد عناصر الأزمة في النظام الديمقراطي ـ الليبرالي بثلاثة توترات بنيوية: 1ـ التوتر القائم بين البعد الديمقراطي المتعلق بالمشاركة الشعبية القائمة على افتراض المساواة الأخلاقية بين البشر وافتراض المساواة في القدرة على تمييز مصلحتهم التي تقوم عليها المساواة السياسية من جهة، وبين البعد الليبرالي القائم على مبدأ الحرية المتمثلة في الحقوق والحريات المدنية من جهة ثانية. 2ـ توتر داخل البعد الديمقراطي ذاته، بين فكرة حكم الشعب ذاته وضرورة تمثيله في المجتمعات الكبيرة والمركبة عبر قوى سياسية منظمة ونخب سياسية. 3ـ توتر بين مبدأ التمثيل بالانتخابات الذي يقود إلى اتخاذ قرارٍ بأغلبية ممثلي الشعب المنتخبين، أو بأصوات ممثلي الأغلبية من جهة، ووجود قوى ومؤسسات غير منتخبة ذات تأثير في صنع القرار (الأجهزة البيروقراطية للدولة) من جهة أخرى. ينبه عزمي بشارة الباحثين الليبراليين الذين شخّصوا خطر الشعبوية في تشويه تقاليد المساواة بتحويلها إلى قيم مطلقة، إلى أنهم لم يولوا الاهتمام الكافي بمعالجة المصادر الاجتماعية والثقافية للشعبوية ليست هذه التوترات عابرة، بل هي دائمة وجزء رئيسي داخل منظومة العلاقة بين الديمقراطية والليبرالية. لكن في حين اعتبر مولر أن هذه التوترات الثلاثة هي سبب نشوء الشعبوية، لا يعتبر عزمي بشارة أن هذه التوترات في ذاتها سبب لنشوء الشعبوية، لأنها لا تؤدي تلقائيا وبالضرورة إلى غضب قطاعات اجتماعية، أو إلى نشوء خطاب شعبوي، فغالبا ما لا يفكّر الناس في هذه التوترات. هنا، ينتقل بشارة إلى البنية الاجتماعية ـ الاقتصادية، فالتفاوت بين المساواة الاجتماعية والمساواة السياسية، وفجوات توزّع الدخل وتشوهه، وإشكالية الحرية في غياب المساواة الاجتماعية، ومسألة الهويات والحقوق الجماعية، والثقافة والتقاليد السائدة، هي مصدر التهميش ووجود فئات متضررة وأخرى مستفيدة من النظام. وتتغذّى الأزمة بتعمق اللامساواة مع انهيار إجماع ما بعد الحرب العالمية الثانية على دولة الرفاه وهيمنة النموذج النيوليبرالي وتضرّر الطبقة الوسطى والعمال الصناعيين. ولذلك ينبه بشارة الباحثين الليبراليين الذين شخّصوا خطر الشعبوية في تشويه تقاليد المساواة بتحويلها إلى قيم مطلقة، في أنهم لم يولوا الاهتمام الكافي بمعالجة المصادر الاجتماعية والثقافية للشعبوية. وافق بشارة على مقاربة ديفيد غودهارت في أهمية مسائل الهوية والانتماء والثقافة في تفسير الشعبوية. وقد ميز غودهارت بين فئتين اجتماعيتين في الغرب الديمقراطي: تنتمي الأولى إلى بيئة محلية، وتحافظ على قيمها وتقاليدها، ويتسم أعضاء هذه الفئة بأنه لم يغادروا بيئتهم المحلية. والثانية هي فئة اللامحليين أو المتنقلين الذين لا ينتمون إلى مكان محدّد، وبسبب تنقلهم المستمر بحكم عملهم، تفاعلوا مع الثقافات الأخرى. الفئة الأولى، هي التي ترفض الغريب والطارئ. ولذلك هي الأكثر تعرّضا لخطاب الشعبوية، خصوصا في جانبه المضاد للهجرة، في حين أن الفئة الثانية غير قلقة من الهجرة والاندماج. وقد دافع غودهارت عن الفئة الأولى من خلال دعمه الشعبوية اليمينية، فما يجب حمايته ليس حقوق الفرد، وإنما حقوق الجماعة والأعراف والتقاليد الأصلية. وينتقد بشارة الحلول التي قدّمها غودهارت، لأنها تعني أن معركة التعدّدية الثقافية ستكون خاسرة، وأن اليسار يجب أن يتبنّى سياساتٍ ثقافيةً إثنيةً كي يجتذب هذه الفئة بعيدا عن اليمين الشعبوي. ويتجاهل هذا الرأي أو التيار أيضا، بحسب بشارة، أهمية الحقوق الاجتماعية ورفع مستوى التعليم في مقابل التشديد على تعظيم عنصر الثقافة. الحركات الاجتماعية مثلت، في ظل النظام الديمقراطي أيضا، توجها لتحديد سلطة الدولة من خلال إعادة الحياة لسلطة المجتمع المدني فكرة المحلوية غير كافية لتفسير الشعبوية، الأمر الذي دفع بشارة إلى توجيه نقد لتحديدات موده الشعبوية في المحلوية والسلطوية وعدم الثقة بالنخب، لأن ثالوث السياسات الشعبوية هذا في المجتمعات المتطوّرة يجمع بين أحزاب كثيرة في أوروبا، وبالتالي تصبح الشعبوية غير مختلفة نوعيا عن التيار المركزي. يسلط بشارة الضوء على التداخل الحاصل بين الشعبوية والحركات الاجتماعية الشعبية، ويأخذ على ذلك مثال عملية وضع الحدود لسلطة الدولة، فيقول إن عملية تحديد سلطة الدولة لم ترتبط بالليبرالية فقط، فالحركات الاجتماعية مثلت، في ظل النظام الديمقراطي أيضا، توجها لتحديد سلطة الدولة من خلال إعادة الحياة لسلطة المجتمع المدني. وهذا يقتضي أن ثمّة استنتاجات غير شعبوية مستخلصة من الاغتراب عن المؤسسات والقيادات السياسية، إذ تُطرح صيغ من الديمقراطية غير المركزية في البلديات الصغيرة ووحدات الإنتاج الصغيرة وتستخدم البلاغة الشعبوية، لكنها ليست شعبوية، لأنها لا تمتلك أيديولوجيا تعتبر الشعب خيرا في حد ذاته. فكرة الشعب بأنه خير في ذاته مقابل النخبة، قد تنتهي إلى نشوء الـ "نحن" مقابل الـ"هم"، إذا زاد منسوب الكراهية وشيطنة الآخر، وهنا ثمّة فرق بين رؤية بشارة الـ"نحن" و الـ"هم"، مغايرة لرؤية موده وكالتواس. بالنسبة لبشارة، ليست الرؤية الأخلاقية للعالم عند فئة اجتماعية معينة سبب نشوء الـ"نحن" مقابل الـ"هم"، فهذه الثنائية هي نتاج الخطاب الشعبوي، أو بالأحرى هي أحد أشكالها الأخيرة، فليس ثمّة موقف أخلاقي حدي مكتمل وناجز عند فئة اجتماعية قبيل نشوء الخطاب الشعبوي من البنية الفوقية (الزعيم أو الأحزاب السياسية).  


حقوق النشر محفوظة للموقع (DRAWMEDIA)
Developed by Smarthand