العراق: سياسات التوظيف ورشوة الجمهور!

2022-11-11 19:11:32

عربية Draw:

بعد 2003، شهد العراق تحولا في سياسات التوظيف الرسمية، من خلال الغياب التام لأي استراتيجية ومعايير لهذا التوظيف، وعلاقتهما بالسياسات العامة للدولة، حيث أصبحت هذه السياسات تعتمد قرارات ارتجالية شعبوية، وقد استغل الفاعلون السياسيون مسألة التوظيف على نطاق واسع لأغراض صناعة جمهور زبائني خاص تابع لهم، ولدكاكينهم السياسية!

إن مراجعة الأرقام الرسمية المتعلقة بالقطاع العام تؤكد ارتفاع عدد الموظفين الذين يحصلون على رواتبهم من الدولة من مليون وأربعة وسبعين ألف، عام 2004، إلى ثلاثة ملايين ومائتين وأربعة وستين ألف عام 2021؛ أي بزيادة أكثر من ثلاثة أضعاف تقريبا خلال 17 عاما. بالإضافة لما يزيد على مليونين ونصف متقاعد (لم يكن هذا الرقم يزيد عن 600 ألف في العام 2003، أي ان الزيادة في عدد المتقاعدين خلال 17 عاما بلغت ما يقرب 1.9 مليون وتسعمائة ألف متقاعد)، يضاف إلى ذلك أرقام مئات الآلاف من المتعاقدين والمشمولين بالرعاية الاجتماعية، فضلا عن ظاهرة ازدواج الرواتب، ليصل الرقم إلى حدود 7 ملايين مواطن يتلقى رواتب من الدولة، وهذا يعني أن ما تصل نسبته إلى 40٪ من المواطنين البالغين فوق سن 18 سنة يتلقون رواتبهم من الدولة، وهذا رقم مهول لا مثيل له في العالم أجمع، وهي أرقام تكشف عن عدم ارتباط سياسات التوظيف في العراق بأي معيار علمي أو اقتصادي أو منطقي!

أنتجت سياسات التوظيف الارتجالية والزبائنية هذه، كوارث على سياسات التنمية والسياسيات الاقتصادية عموما، فقد زادت نفقات هذه الرواتب إلى حوالي 74٪ من النفقات المقدرة عام 2020، وفقا لأرقام ورقة الإصلاح البيضاء التي نشرتها حكومة الكاظمي!

لم تتوقف هذه السياسات إلاّ عام 2021 وكان ذلك بسبب متغير خارجي ضاغط، هو انخفاض أسعار النفط العالمية، خاصة وأن الإيرادات النفطية تشكل ما نسبته 90 إلى 93٪ من مجموع إيرادات الدولة. ففي العام 2021 اضطرت الحكومة إلى تضمين قانون الموازنة العامة، ايقاف التعيينات، وحذف الدرجات الوظيفية الشاغرة أو التي سيتم شغورها بسبب النقل أو الإحالة على التقاعد أو الاستقالة او الوفاة، ومنع التعاقد في دوائر الدولة كافة، مع استثناءات محدودة.لكن من الواضح أن ارتفاع أسعار النفط التي تحققت عام 2021 و 2022 جعل حكومة الكاظمي تعيد إنتاج تلك السياسات الارتجالية مرة أخرى، لاسيما أن قانون الموازنة الاتحادية للعام 2022 لم يكن مشرعا أصلا، وذلك عبر قرارات لمجلس الوزراء مثل استحداث درجات وظيفية لتثبيت المتعاقدين، أو قراراتها المتعلقة بتحويل عشرات الآلاف من العاملين بأجر يومي إلى متعاقدين من دون أي غطاء قانوني لذلك!

ويبدو اليوم ومن خلال التصريحات الرسمية التي تصدر عن السلطتين التنفيذية والتشريعية قبيل إعداد قانون الموازنة الاتحادية للعام 2023، أن استغلال مسألة التوظيف، سيستمر ويتكرس مع الوفرة المالية الحالية!

فقد صرح رئيس الحكومة الجديد، السيد محمد شياع السوداني بأن «مجلس الخدمة الاتحادية سيتولى تعيين حملة الشهادات العليا و [الخريجين] الأوائل الذين يتجاوز عددهم الـ 74 ألفا»! وبعيدا عن لغز وجود هذا العدد الضخم من حملة الشهادات العليا والخريجين الأوائل، وبعيدا عن أن هذا القرار يضرب ما يقرره قانون مجلس الخدمة الاتحادي رقم 4 لسنة 2009 الذي ينص على أن التعيين في الوظيفة العامة هو «من اختصاص المجلس حصرا وعلى أساس معايير المهنية والكفاءة»، فإن تعيين هذا العدد الضخم بهذه الطريقة الارتجالية، إنما هو إثبات لما قلناه، آنفا، حول طبيعة سياسة التوظيف في القطاع العام في العراق!

وقام أعضاء مجلس النواب بطبيعة الحال وبالمنطق الزبائني نفسه، بالتهافت عبر المطالبات الرسمية، وعبر التصريحات؛ فقد تقدمت إحدى النائبات بطلب تثبيت المحاضرين في قطاع التربية ضمن مطالبات أخرى، علما أن عدد هؤلاء المحاضرين بلغ 209 آلاف محاضر (هذا الرقم ورد في كتاب رسمي وجهته وزارة التربية إلى اللجنة المالية في مجلس النواب العراقي بتاريخ 18 آذار/ مارس 2021)!

فيما طالب نائب آخر بجعل الأولوية في الموازنة القادمة لإنهاء قضية العقود في دوائر الدولة وتثبيتهم على الملاك الدائم، وهو هنا يتحدث عن مئات الآلاف من هؤلاء المتعاقدين!

في سياق هذه الخطابات العبثية، قرر مجلس النواب مناقشة قانون خدمة العلم/ التجنيد الإلزامي، في دولة قوام قواتها المسلحة هو 420 ألف جندي، يضاف اليهم ما يزيد على 180 ألف منتسب في الحشد الشعبي الذي أصبح جزءا من القوات المسلحة من الناحية الشكلية على الأقل، و28 ألف منتسب من قوات مكافحة الإرهاب، و680 ألف منتسب من قوات أمنية تابعة لوزارة الداخلية التي تضم أيضا شرطة اتحادية قوامها 200 ألف منتسب لا يختلف تسليحها كثيرا عن الجيش، فضلا عن جهاز أمن وطني يضم بضعة عشرة آلاف، ولم يفكر أحد من المناقشين للقرار، خطورة هكذا قرار من حيث أنه تكريس لعسكرة المجتمع، وأن هذا القانون في حال تمريره، سيبلغ عدد المشمولين به ما بين 250 و 300 ألف جندي مكلف في السنة الأولى لتطبيقه، ليتحول إلى ضعف هذا العدد بداية من السنة الثانية، وهو ما يعني رواتب تزيد عن ملياري دولار، يضاف اليها ضعف هذا المبلغ كمستلزمات وإطعام وما إلى ذلك في السنة الأولى من تطبيقه فقط، ثم يتضاعف المبلغ في السنة التالية!

لم يشهد العراق طوال تاريخه كدولة ريعية، هذا النوع من السياسات الارتجالية فيما يتعلق بمسألة التوظيف في الدولة، إلا بعد عام 2004 الذي شهد نقل السلطة من قوات الاحتلال إلى الحكومة العراقية المؤقتة، حيث أصبحت هذه السياسات حاكمة لمسار الدولة، ليس مهما هنا إذا كانت تلك السياسات بسبب الجهل أم التواطؤ، المهم أنها أنتجت، في نهاية الأمر، دولة متخمة بالموظفين الفائضين عن حاجتها الفعلية، وتحت دعاوى شعبوية، ولا مؤشر واضح على إيقاف هذه السياسات غير المنطقية، بل هناك تكريس واضح لها!

بابه‌تی په‌یوه‌ندیدار
مافی به‌رهه‌مه‌كان پارێزراوه‌ بۆ دره‌و
Developed by Smarthand